الطريق الى المدرسة

659

جواد غلوم/

ليست المدرسة وحدها من تعلّم وترتقي بالإنسان نحو مدارج الرقي الفكري، ولا ننكر ان التعلّم في الصغر كالنقش في الحجر، لكن الطريق الى المدرسة منذ أول ولوجها هي من تترك فينا رسوخ الأثر الطيب في النفوس، فقد طبعت في أذهاننا مواقف غاية في النبل والمروءة وأنت تقبل على مقاعد الدراسة.

ومثلما علمتنا المدرسة ان نقرأ ونكتب ونوسع آفاق عقولنا وأعطتنا مفاتيح العلوم والآداب وهذّبتنا وشرّبتنا روح الوطنية ومحبة بلادنا وإرثها العظيم وديننا الحنيف؛ فإنها تعلمنا ايضا كيفية ان نحترم النظام وخطوط العبور ونسلك ممرات الأرصفة المخصصة للمشاة ونعين الكبير ونعطف على الصغير ونساعد غير القادر على عبور الشارع وإيصاله بأمان الى الطرف الآخر إضافة الى المواقف الأخلاقية العالية التي تصادفنا ونحن نيمم وجوهنا نحو صفوفنا .

مازلت اتذكر موقفا لن انساه ماحييت انا الطفل ذو السبع سنوات من عمره الذي خطا الى مدرسته في اول سنة دراسية يوم حملتني امرأة غريبة عابرة على عاتقها في صباح ممطر جدا وسحبت مني حقيبتي ووضعتها في يدها حيث الطرق مملوءة بالوحل والأطيان حتى أوصلتني الى باب المدرسة واحتملت طول المسافة البعيدة بين بيتنا والمدرسة ولم تعبأ بزخّات المطر الكثيفة التي زادتها بللاً وتعباً وعزما على ايصالي مهما كانت الأجواء.

ربما يكون هذا الموقف سهلا بالنسبة لي؛ فقد قرأت ان طلابا صغارا بأعمار الزهور يعبرون الأخاديد والوديان ويجتازون الجبال وهم يتجهون الى مقاعدهم الدراسية، وهناك قرى مغطاة بالثلوج في جبال الهملايا الهندية يلجأ طلابها لاجتياز وعبور التراكمات الثلجية هدفا للوصول الى مدارسهم وهناك من الشعوب من يعبر المسطحات المائية ويستخدم القوارب المتهالكة لكي يصل الى مدرسته في الضفة الاخرى. وقرأت مرة ان بنغلاديش أسست مدارس وصفوفا في السفن الصغيرة والقوارب بسبب شدة الفيضانات وتعذر وصول الصغار الى صفوفهم، ومازالت تتراءى امامي مشاهد طلبة المدارس في فلسطين وهم يجتازون الحواجز ونقاط التفتيش ورؤية العساكر المدججة بالسلاح وقد يتعرضون للضرب والمضايقات وحتى الاعتقال وهم في طريقهم الى مناهل العلم والأدب والفن.

واذا كانت المدرسة تفتح لك ابواب العلوم والآداب والفنون وهي من تقوم بتحضير الحياة ذاتها كما يقول الفيلسوف وعالم النفس والتربوي الأميركي “جون ديوي” فإن محيطها المجتمعي هو حياة صغيرة تدرّبك على رؤية العابرين والقاصدين وسلوكهم وتتعلم منهم ما لم تتطرق اليه المدرسة من مسالك وخلُق الإنسان في الشارع والمحيط المجاور لمعاهد ومدارس التعليم بكل مراحلها وربما يكون الطريق الثاني معلّما آخر يتقن التعليم اكثر بكثير مما تعلّمه المدرسة نفسها.

فمن يصل الى مدرسته عابرا الأخاديد؛ متجاوزا الوحول والأمطار؛ سابحا في المسطحات المائية ليصل الى صفّه ليس كمثل الفتى المدلّل الذي يقلّه الباص من باب بيته الى مدخل المدرسة وبالعكس.

لقد كان الشاعر الفرنسي رامبو يقول “ان من السخف ان نبلل سراويلنا طويلا على مقاعد الدراسة، فمقاعد الحياة الوثيرة خارجاً اكثر حركة وامتدادا وسعةً من كراسي الصف وفصوله التي لا تتزحزح من مكانها.”