الغياب
سعاد الجزائري /
للغياب معنى واحد وألف وجه وقصة، ولا يقتصر وجهه الأكثر إيلاما على غياب قريب أو حبيب او صديق، باعتباره الموجع والأكثر دمعا، ويكتشف الانسان عندما يتمدد عمره على ساحل الغربة والوحشة أن غياب الوطن، هو الغياب الذي جرحه لا يندمل، وحزنه لا يصغر بمرور الدمع، بل يكبر الجرح وينضج ولا يشيخ، لأنَّ غياب الوطن لا يُعوض أبدا.. فهو الكل الذي يتشكّل منا، نحن أجزاؤه، قلبه وعيونه ودم عروقه..
غياب الوطن لا يعني أن تكون جغرافيا خارج خارطته، فقد نتغرب ونتلاشى ونحن تحت جنحيه المكسورين، أو نتساقط كريش من جنحيه، فيعجز ساعتها عن الطيران..
الغياب يكمن أيضا في البحث عن الحب بعالم ملغوم بالكره، وهو أكثر قسوة من غياب الموت، لأنَّه مثل قاتل بسكين مثلومة ينتزع الروح ببطء معذب وموجع للحد الذي يكون الموت أكثر رحمة منه..
وأكثر غياب وجعا عندما ينزوي الحق أو يزحف راكعا ارضاء لسطوة كذب يسود ويتسلط، ويتحكم بمصائرنا، لأنَّ قوتنا غابت وتفتَّت تحت مطرقة الاختلاف، ولأنّ وعينا المتدني قادنا إلى اختيار الفرقة والتقاتل كبديل لسلام نسيناه بسبب امتهاننا للحروب وتسلحنا بالموت كبديل للحياة..
يتحول البشر إلى خشب يابس وهش، عندما يغيب التواصل والتماس الإنساني، وتتحكم خدع أوبئة السياسة بعواطفنا، فتمنع لمس الايادي وعناق الأحبة وتغلق حدود اللقاء، تحت مسميات مختلفة تبدأ بالحرام والحلال وتنتهي بكورونا وويلات صناعها، وهنا، عند هذا الحد الجزع تسدل ستارة العواطف، وينغلق العالم على غيابين؛ الأول فقداننا لإنسانيتنا والثاني غياب الجانب السامي فينا..
الحلم بوابة مشرعة على الأمل، والأمل هواء ديمومتنا واستمراريتنا، وإن غاب الحلم تلاشى الامل، وضياع الأخير يقودنا إلى عالم يخلو من أحلامه، وقد تنحسر الأحلام وتتقلص حتى نصل إلى تمحورها في الحصول على نسمة هواء نقي، وهذا ما نعيشه الآن، بسبب التلوث البيئي والسياسي والوبائي؛ فقبل سنوات حلمنا بوطن حر وشعب سعيد، ثم انحسر الحلم ليصبح الوطن حراً والشعب غير سعيد، وبعد سنوات من محاصرة الحلم والأمل أصبح لا الوطن ولا شعبه سعيداً، ولم تتوقف عجلة طحن الأحلام فغابت عن مفرداتنا كلمتي (حر وسعيد) وتمسكنا بكلمتي (وطن وشعب)، لكن الطاحونة تلتهم كل آمالنا، فتفتَّت الشعب إلى أجزاء وأشلاء، وتحول الوطن تدريجيا، تحت فكي المطحنة إلى رماد، وما زلنا نعاند المطحنة ونصرخ بكل ما بقي عندنا من صوت: نريد وطنا…
هل الغياب أكبر من وطن رسمناه على دفاترنا ونحن صغار وبللنا خارطته بدمعنا ونحن كبار؟
هل الغياب أكبر من الحب ومن لحظات العناق الانساني؟
هل الغياب صناعة محلية أم بضاعة مستوردة ملغومة بتلك المفردة؟
هل أنا جسد حي ملموس، اتفاعل مع حلمي وأملي، أم إنّي جوهر الغياب؟
بقي لنا أمل واحد أنَّ الحب لا يستطيع أيا كان، مهما تعاظم جبروته، او تطورت أسلحته الفتاكة، أن يغيّب عن قلوبنا الحب، إلا في حالة قبولنا بهذا الغياب..
(بغير هذ الحب لا تكون)…الرومي