الكاتب في منفاه

557

عواد ناصر/

فوجئ جاري الإنكليزي، توم، عندما رأى كتاباً لي على الطاولة، وهو يحدق في صورتي، التي على الغلاف الأخير، ليتأكد من أنها صورتي حقاً وفعلاً وجداً! نادراً ما يزورني توم في بيتي أو أزوره في بيته إلا في المناسبات: رأس السنة أو الكريسماس أو عندما يقيم أحدنا وجبة شواء في يوم صيفي مشمس. إذن، أنت كاتب! علّق توم وهو يتصفح كتابي. ترددت في أن أجيب بـ “نعم” لأن المواطن الإنكليزي أو الأوروبي عموماً، سرعان ما يعتبرك مليونيراً، أو شخصاً في بحبوحة من دنياك في أقل تقدير. لكنني أجبت بتلك الـ “نعم” المضطربة التي تحتاج الى توضيح غالباً ما يتم بطريقة متعبة، فالقضية معقدة أكثر مما تتصور. أنا، يا صديقي، كاتب يكتب بلغته الأم فقط. لم ينفع هذا التوضيح الأولي أيضاً. فكل الكتاب يكتبون بلغتهم الأم في جميع أنحاء العالم. فغابريل غارسيا ماركيز، مثلاً، كتب بالإسبانية لغته الأم ليفتح العالم عينيه على أحداث قرية كولومبية لا ترى في الخارطة، وأدهش القراء من أقصى الأرض إلى أقصاها. ألا يمكنك الكتابة باللغة الإنكليزية؟ سألني توم الملحاح. لا، يا توم، فأنا بالكاد أكتب حتى بلغتي الأم. إذن، كم دفع لك ناشرك العربي بعد صدور هذا الكتاب؟ لم يدفع لي، يا صاحبي، فلساً واحداً.. وأنا في هذا عظيم الحظ بخلاف زملاء لي، بالمئات، عبر الوطن العربي، يدفعون أموالاً للناشرين بدلاً من أن يدفع لهم الناشرون. فأنا من القلة الذين لا يدفعون مقابل نشر كتبهم.. فأنا من الكتاب العرب المحظوظين؟ وماذا عن الترجمة؟ كلف أحد المترجمين بترجمة كتبك إلى الإنكليزية.. إنه أمر متعارف عليه هنا؟ عقب جاري بحماس. أجبت: الترجمة اشتراك الكاتب مع مترجمه.. أي أعدّه شريكي في تأليف الكتاب، ما يضيع عليّ نصف أفكاري واستعاراتي، ثم يأتي دور الناشر ليقترح محرراً، وهذا المحرر سيقترح بعض الحذف أو الإضافة، بما يستجيب لمزاج قارئ أوروبي حتى لو فرّغ النص من نصف طاقته التعبيرية. على أن مربط الفرس، وهو تعبير يستحيل على الترجمة الحرفية، يا جاري العزيز، يتلخص بأنني شاعر، والمطلوب أكثر هو الناثر: رواية، سرد، يوميات، شهادات.. إلخ.. وهذا ليس في صلب مهنتي. هل حاولت وبادرت؟ الشاعر لا ينتظر الناشر، رغم أن ثمة ناشرين يبحثون عن الجديد والمختلف؟ هذا سؤال مهم، لكنه بحاجة إلى إضافة: ثمة ناشرون يبحثون عن المثير وفق متطلبات السوق.. إذ ليس كل ما ينشر من كتب، حتى في أوروبا، يستحق النشر. فالبحث هو عن المردود التجاري للكتاب، قبل أي مردود آخر. لم يتحمس الناشرون كثيراً لكتاب “هاري بوتر”، الذي تحول إلى أسطورة سينمائية معاصرة، حيث اعتقدوا جميعهم أن القصة لن تلقى حماسة من الجمهور، ولن تغطي تكلفة طباعتها، والناشر الوحيد الذي قبل نشره رفض أن يكتب اسم “رولنغ” كما أرادته “جوان رولنغ” بل استخدم الحروف الأولى (ج. كي. رولنغ) لأنه اعتقد أن القراء سينفرون من قراءة كتاب أطفال كتبته امرأة. ما جعلها أغنى كاتبة في العالم اليوم. صناعة الإبهار ثم التقنيات المذهلة للسينما، أضفت على العمل نجاحاً لم تكن تتوقعه حتى الكاتبة نفسها. ألم أقل لك إن القضية معقدة، يا جاري العزيز؟