الكتابةُ حتى النفسِ الأخير

594

عبد الله صخي /

سبعون عاماً مضت على صدور رواية الكاتب البريطاني جورج أورويل (1984). ولا أظن أن رواية حظيت باهتمام كالذي حظيت به هذه الرواية. ففضلاً عن ترجمتها إلى نحو خمس وستين لغة حتى التسعينات من القرن الماضي، فإنها لا تزال مثار نقاش وتطبيق حول الأنظمة الشمولية في العالم. ولقد بلغ تأثير الرواية حداً دخلت معه بعض الاصطلاحات، التي تميزت بها، الاستخدام اليومي مثل (الأخ الأكبر، التفكير المزدوج، جريمة الفكر) وغيرها.
شرع أورويل في كتابتها بين سنتي 1947 و1948 رغم معاناته المريرة من مرض السل وصدرت في الثامن من حزيران/يونيو 1949.
تناول أورويل في روايته نظام الحكم الاستبدادي الشمولي وبحث في عدميته وعبثيته ونزعته التدميرية للفرد والمجتمع. ولعله استلهم ثيمة روايته من التجربة الستالينية في ما كان يطلق عليه الاتحاد السوفييتي. أبطال الرواية محاصرون في كل مكان، لا توجد زاوية في مقاطعة أوشينيا الخيالية آمنة أمام مواطنيها، فـ (الأخ الأكبر) قادر على السيطرة على كل همسة أو نأمة، ذلك أن عناصره لا يحصون أنفاس السكان فحسب بل أنفاس بعضهم. الكل مراقب حيث الملصقات في كل مكان وهي تشير إلى عبارة مرعبة: “الأخ الأكبر يراقبك” والكل يخضع لسطوة دكتاتورية مخيفة تقوم على الحرب والرقابة، وعلى تزييف الوقائع اليومية والتاريخية بما يناسب فكرة السيطرة التامة على كل شيء في المقاطعة وتشرف عليها وزارة تدعى وزارة (الحقيقة)، كما تشرف وزارة (الحب) على التعذيب، ووزارة (السلام) على الحرب ونتائجها النفسية والاجتماعية. إن الأساليب الوحشية في الرصد والتعذيب تدفع بطل الرواية (ونستون سميث) إلى الانهيار ومن ثم الانصياع إلى حب (الأخ الأكبر). لقد تماثلت رؤية الرواية للطغيان مع معاناة المواطن العربي من أنظمة الاستبداد، لذا فإن القارئ كثيراً ما يشعر بأن الروائي يتحدث عنه وعن مكابداته اليومية في الشارع والمدرسة والدائرة من أجهزة القمع الأمنية التي تتحكم بمصير البلاد.
كتب أورويل هذه الرواية بدمه، مستهدفاً كشف الدور الظلامي التخريبي لأنظمة الحكم الاستبدادية، باحثاً عن العدالة الاجتماعية، فكان رائياً عميقاً وفاحصاً نموذجياً لتجاربنا السياسية قبل تجارب أوروبا ودول أخرى في العالم. في تلك الأيام ازدادت حدة مرض السل عليه فأخذ يكتب ليل نهار حتى أنجز عمله بقدرة استثنائية مضنية، لكنه ظل ينزف حتى سقط ميتاً.