الكعكة وعيون المها
نرمين المفتي/
في كتاب (محاضرة الشعراء) لابن عربي نقرأ ان الشاعر علي بن الجهم (188- 294هجري) دخل على الخليفة المتوكل وألقى قصيدة في الثناء عليه منشدا “انت كالكلب في حفاظك للود وكالتيس في قراع الخطوب/ انت كالدلو لا عدمناك دلوا من كبار الدلا كثير الذنوب». ورفض الخليفة مطالبة جلاسه بمعاقبته لاستخدامه صفات غير لائقة في مدحه وقال ان الشاعر ابن بيئته الصحراوية القاسية وما الألفاظ التي استخدمها الا من تلك البيئة، وأمر ان يوفر له بيتا في بستان قريبة من الرصافة في بغداد ولينتظروا شعره بعد أشهر من عيشه في بغداد بين الخضرة والناس والماء والجمال، كتب قصيدته التي تعتبر من عيون الشعر العربي، وقال فيها «عيون المها بين الرصافة والجسر/ جلبن الهوى من حيث ادري ولا ادري» . هذه بغداد التي نحتت العرب من اسمها الفعل (تبغدد) ليصف الأنيق في لبسه والكريم . بغداد التي كانت تملأ الدنيا شعرا وثقافة وجمالا وعطاء وتمدنا، كيف اصبحت ولأكثر من عقد من الزمان في (صدارة) لائحة مؤسسة ميرسير وهي واحدة من أكبر شركات استشارات الموارد البشرية في العالم. وتصدرت بغداد اللائحة من حيث سوء جودة الحياة فيها بسبب ما تشهده من دمار في بنيتها التحتية، نتيجة لما شهدته من حروب عديدة وعنف متواصل حتى الآن، واعتمدت اللائحة ايضا على عوامل أخرى في المقارنة بين جودة الحياة فيها وفي عدد من المدن الأخرى وهي البيئة السياسية (الاستقرار السياسي والجريمة ونفاذ القانون) والبيئة الاقتصادية (أنظمة صرف العملات والخدمات المصرفية فضلا عن البيئة الاجتماعية والثقافية من حيث توافر وسائل الإعلام والرقابة والقيود على الحرية الشخصية والجوانب الطبية والصحية من ناحية توفر الخدمات الطبية وانتشار الأمراض المعدية وأنظمة مياه الصرف الصحي والتخلص من النفايات وتلوث الهواء وللتعليم تأثير في تقييم جودة الحياة في المدن من حيث المعايير المتبعة فيه، وتوافر المدارس الدولية في المدن التي تمت دراستها، علاوة على الخدمات العامة مثل الكهرباء والمياه والنقل العام وازدحام حركة المرور.
من المسؤول عن وجع بغداد وجرح وجهها الحضاري؟ قطعا هناك من سيجيب قائلا الحروب والعنف المستمر.. ولكن من المسؤول عما وصلت اليها بغداد من حالة من الفوضى غير المساعدة على الحياة؟ الفساد دون شك الذي اعتبرناه ارهابا داخليا، اذ كانت 13 عاما ومليارات النفط حين اصبح سعر البرميل اكثر من 100 دولار كافية لبناء مدينة جديدة بحجم بغداد، وليس اعمارها، ولكن سياسة (تقاسم الكعكة) التي نسيت (عيون المها) لم تترك وقتا للتفكير في هذه المدينة التي كانت شاغلة الدنيا بتمدنها واصبحت شاغلتها ايضا بأخبار الفساد والمحاصصة والعنف. من يعيد الى الرصافة تلك العيون؟.