المراهقة!
حسن العاني /
الاستعارة باب من أبواب البلاغة، لا تحتكرها أمة ولا تنفرد بها لغة، ولعلها الأكثر ذيوعاً وانتشاراً من الفنون البلاغية الأخرى بسبب الحاجة الكبيرة لها، لكونها ذات طبيعة حياتية تعبر عن خواطر الناس وما يريدون إيصاله من معان ودلالات بصورة مختصرة، ولهذا فإنها ليست من نصيب “الفصحى” وحدها، بل إن حظّها وافر في العاميّة واللهجات المحلية والأدب الشعبي.
أود الإشارة هنا إلى ظاهرة الغزو المتبادل بين شتى الآداب والعلوم، حيث “يستعير” الناقد الأدبي، مثلاَ، هذا المصطلح أو ذاك من الجغرافيا أو التاريخ أو الفلك أو الفلسفة.. الخ، مثلما “يستعير” السياسي مصطلحات ذات مرجعية تنتمي إلى الشعر أو الكيمياء أو علم الاجتماع.. هكذا جرت الأمور منذ عقود بعيدة حتى لم يبق مصطلح، وإن كان من مصطلحات الدين أو المهن أو الحِرَف، إلا استعير هنا أو هناك!!
لعل مفردة “المراهقة” واحدة من أكثر الأمثلة التي يصحّ الاستشهاد بها، فمن المعلوم أن هذه المفردة هي من المصطلحات الدارجة في لغة “الأطباء وعلماء النفس” لكونها إشارة إلى نوع من التغيرات الطبيعية التي تظهر علاماتها على الإنسان في مرحلة معينة من مراحل العمر، سواء أكانت “جسدية” أم “نفسية”. وإذا ما تجاوزنا كثيراً من مباحث الطب والطب النفسي عن المراهقة وأعراضها وسبل التعامل معها، وما “العمر” المحدد لها، ودور المناخ في “الإبطاء” أو التعجيل في ظهورها، وما المراهقة “الثانية”.. الخ، فإن المراهقة، من حيث هي مصطلح، يراد به ذلك التصرف الذي يتسم بقدر من التهور والاندفاع والتسرع في اتخاذ القرارات التي تقتضي مزيداً من التروي والتأمل، وهذه إشارة يطلقها علم النفس تعبيراً عن نقص الخبرة وقلة التجربة وغياب الوعي في هذه المرحلة المبكرة من حياة الإنسان.
إنّ هذه المفردة، التي اتخذناها مثلاً، قد غادرت مع الزمن حاضنتها الطبية، وتبنّتها العلوم الأخرى جميعا بدون استثناء، فقد استعارها السياسي المتزمت ليصف غيره، حقاً أو باطلاَ، بأنه يعاني من المراهقة الفكرية للتقليل من شأنه أو إسقاطه بحجة أن طروحاته مشوّشة وساذجة. ويفهم من ذلك أن المراهقة تعبير يستعار للانتقاد وليس النقد. وبهذه المناسبة يقول الناس عن الرجل الذي بلغ مرحلة من الشيخوخة ومازالت عينه تطارد النسوان، بأنه “مراهق”، مثلما يقولون عن المرأة التي أصبح أحفادها في الجامعة، ومازالت تنفق نصف راتبها على مستحضرات التجميل.. إنها مراهقة. وفي أرجاء العالم تُطلق هذه المفردة على مئات الأشياء التي تفتقر إلى النضج، من ذلك: حكومة مراهقة، حزب مراهق، ديمقراطية مراهقة، وزير مراهق.. الخ، ومن طريف ما وقفتُ عليه، وصف أحد الكتّاب للمناخات المتقلبة والتسوناميات والفيضانات العبارة الآتية “يشهد العالم حالياً مناخاً مراهقاً”!!
لا تقف الصحافة خارج هذا السياق، فقد ظهرت في العراق صحافة مراهقة بعد (2003) عندما أصبح في المرحلة الأولى من التغيير عدد الجرائد أكثر من عدد القراء، ويحضرني هنا صدور صحيفة في عام (2004) تصدرت واجهتها العبارة التالية (صاحبها ورئيس تحريرها ومصممها ومنضدها ومسؤول أقسامها.. فلان الفلاني)!! إذن هناك رؤساء تحرير مراهقون كذلك، ليسوا بالضرورة على شاكلة صاحبنا الأوحد، فقد تهيأ لي العمل في إحدى صحف المحافظات، عَمَدَ رئيس تحريرها في (3) أشهر إلى إبدال صورته المنشورة على صدر الصفحة الأولى (14) مرة، بما فيها صورة له بالدشداشة!! وفي الشهر الرابع تولى إجراء تحقيق مضحك عن حديقة الحيوان في مدينته عن مجموعة من طائر “البوم”، ولم يتردد عن نشر صورته معها، وحين اعترضت عليه لأن هذا لا يليق به ولا بالمطبوع، ردّ عليّ غاضباً (البومة حيوان مظلوم وأردتُ إنصافه)، لكنه لم يتوانَ عن ظلمي حين قطع عني مخصصات النقل!!
تنويه: وردت في المقالة إشارات إلى وجود أحزاب وحكومات وديمقراطيات ورجال ونساء ومناخات.. توصف بأنها مراهقة، ويود الكاتبُ التنويه إلى أنه غير مسؤول عن حالات مماثله أو مشابهة في الحياة، لأن الله يخلق من الشبه أربعين!!