النوّاب والعيسى

392

حسن العاني /

كنا على أبواب الامتحانات الجامعية النهائية، وأستاذ النقد، الكبير الرائع (الدكتور محسن غياض)، الذي لا يسمح لأحد من طلبته أن يتحدث بغير (الفصحى)، يطلب منا الانشغال بقراءة مايعجبنا، ذلك لأننا أنجزنا مادة النقد المقررة، فكيف فاتك، أيها العجوز، أنه الدكتور غياض حين تحاول في درسه حفظ قصيدة بالعامية وتترنم بها لزميلتك في القاعة: [ والشته كله اتعده / والكيظ هم اتعده/ شجاب العشك وشوده / لا بالمحطة رف ضوه/ لاخط اجانه من البعد / لاريل مر عالسدة ]. ويفطن غياض إلى أن القاعة تفوح منها رائحة العامية، ويلقي القبض عليك متلبساً بجريمة التحدث بها، فإذا به لا يتردد عن لعن النواب بالفصحى وعن شتمك بالعامية، والأرق ما زال يختبئ في رأسي، ويعود بي الى أيام الجامعة، نادي الكلية وممراتها ومسراتها.. وما زال النواب، قبل الأرق وفي أثنائه وبعده يسحرني، وقد مر من السنين العجاف حمل بعير، لماذا؟ لأن قصيدة العشق عنده ملغمة بمصائب السياسة، ولأن القصيدة السياسية عنده مطرزة بأريج العشق. أقرأ النواب فيتملكني شعور بأن ما كتبه بالأمس يريد به العصور العراقية جميعها، يرسم بكلمات الغزل حزن العراق: (والكيظ اجانه وانكضه، ورد انكضه، ورد كيظ اجه، والزلف هجرك فضضه، ورد فضضه، وما مش رجه.. وما مش..) فإلى متى: وما مش؟؟
طويل كانتظار الحبيبة، مظلم كقاع البحر وأنا طالب إعدادية الكرخ، اشتري (صلاة لأرض الثورة)، ديوان العيسى سليمان، الذي ينزف وجعاً على مأساة اللغة العربية في الجزائر تحت الاحتلال الفرنسي، ولم تحتفظ حافظتي -على كثرة ما قرأتُ له- بما استشهد به، غير أن العيسى (رحمه الله) حفر في ذاكرتي بضع كلمات.. العيسى يعشق زعيماً عربياً.. يقول له: [ الخطوة الأُولى بدت جبارة]، سليمان العيسى يكافئ تلك الخطوة بقوله: [ صفقت لكْ].
الأرق يفتح بواباته، يذكرني بصديق حملته بين ذراعي كما تحمل الأم وليدها، ويوم ترعرع وكبر في العمر والمنزلة وأنا راضٍ عن سيرته، قلت له: (الخطوة الأولى بدت جبارة)، ثم كافأت خطوته وصفقت له و.. ويسخر الأرق من دوخة رأسي.. ذاكرتي تتشبث بآخر أنفاسها وتسترجع حكاية العيسى الذي اكتشف خيبته بصاحب الخطوة الأولى الذي باهى به يوماً، الخطوة لم تكن (جبارة)، ولا تستحق التصفيق.. هما كلمتان فقط توجزان مأساة العيسى (ورثيتُ لكْ)، وصديقي الذي حملته وصفقتُ له.. عجزت عن وصف خيبتي فيه.. العيسى أنقذني (ورثيتُ لك)، نعم.. رثيتُ له.. والفجر ينهك جسدي والأرق والنواب (والزلف هجرك فضضه، ورد فضضه، وما مش رجه.. وما مش..) فألى متى: وما مش؟!