النَبْيُّ : الساردُ الأعظم

311

جمعة اللامي /

“وما أرسلنا قبلكَ من المرسلين إلاّ إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق.”
(قرآنٌ كريمٌ ـــ الفُرقان )

كنتُ نشرتُ عدداً من الموضوعات قبل أن أُغادر الوطن -في سنة 1979- تحت عنوان “نحو مفهوم عربي للزمن” و “نحو مفهوم عربي للحرية”، كان لها صداها بين النخبة الثقافية والأكاديمية في بلادنا، حيث أن الكاتبين العرب في العصور الأخيرة لم يكتبوا في هذا الميدان بما يليق بثقافتنا العربية والإسلامية، وإن كَتب بعضهم في هذا المجال، فليس بالعودة إلى منابع الثقافة العربية والإسلامية، وهذا ما لا يُبنى عليه.
وأتمنى على الله تعالى أن يَمدَّ في عمري حتى الأيام الثلاثين القابلة، لكي يطلع زملائي على نشاط ثقافي – علمي لي، تنظمه إحدى جامعاتنا العتيدة تحت عنوان “نحو مفهوم عراقي لثقافتنا الوطنية.”
وفي تلكم المقالات، كما في النشاط الثقافي القابل، ثمة حديث في شأن شخصية الرسول الكريم محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، التي هي في إحدى تجلياتها، شخصية آدميّة واقعية، يمشي في الأسواق، ويأكل مع الناس، ويُفاكهُ زوجاته، ويسرد ما يراه للفائدة العامة أو لأهلهِ، ولاسيما زوجاته -أمهات المؤمنين- رضي الله عنهن أجمعين، وفي الآن ذاته أنه مبلِّغُ كوني.
أريد القول بهذا: إنَّ محمداً شخصية زمنيّة أيضاً.
ومن شأن هذه الصفة المُحمدية أن تجعله قريباً من أفهام العامة من الناس، كما تفتح أمام النخب من علماء العرب والمسلمين آفاقاً واقعية وإنسانية للردّ على هرطقات عدد من المفكرين الغربيين ـــ فولتير على سبيل المثال لا الحصر-، وكثرة من المستشرقين المتعصبين لثقافتهم. وعندي أن خير من ردّ على هؤلاء الشاعر الألماني غوته في مسرحيتيه: “محمد” و “نشيد محمد”. وقد أحسن الدكتور محمد حسين هيكل، عندما كرّس مقدمة كتابه: “حياة محمد” لذكر هؤلاء بالأسماء والكتب.
وفي المكتبة العربية الحديثة مؤلفات يُعتدُّ بها في الوقوف عند شخصيته – عليه وعلى آله أفضل الصلاة والسلام-، تنظر إليه بكونه سارداً ومُحدِّثاً مُفَوَّهاً في شؤون أرضية شتى، وسارداً في قضايا ومعضلات غيبية، أي ماورائية، جديرة بالنظر السليم والعقل المنفتح.
وفي مقالاتي التي أشرت إلى عدد منها في خُطبة هذا النص، ركزت على كتاب “الإسراء والمعراج” حيث يتبدى النبيّ بكونه سارداً أخلاقياً على نحو ضخمٍ، من حيث أنه يجيد وضع الصفة المناسبة أيضاً في مجالها ومكانها. وهذا ما نجده في كتب عدد من المعاصرين، كما الأقدمين.
وأتعشم أن الباحثة الدكتورة ليلى العبيدي – الأستاذة في جامعة الشارقة-، تسير على وفق منهج الأقدمين من أئمة العرب والمسلمين الذين أخذوا بقول الله سبحانه وتعالى، بأن محمداً رجل يمشي في الأسواق، إلى آخر تلك الصفات التي وردت في الذكر الحكيم. وقد انفردت هذه السيدة الجليلة، وتفرّدت في كتابها “الفكه في الإسلام” في بناء (غُرفتها الخاصة) بين المعاصرين في هذا العِلم الفريد حقاً، كما في كتابها المشار إليه.
إنّ هذا الأُستاذ المُلهم: “الفكه في الإسلام” موسوعةٌ في ميدانه، وبحرٌ في مضامينه، وخطابٌ عقلي في مُجادلاته، يضع صاحبته في منزلة العارف في هذا اللون من الخطاب، وغرفة العالِم في ميدانه، إذْ أنها جمعت ما قيل في شأن العنوان، ما يقوم به فريق من العلماء والمختصين، ولاسيما في مجالات لم يسبقها إليها غيرها، بأسلوب علمي رصين، وتوثيق يليق بأي باحث مستنير فيعصرنا الحديث.
أنصح أبنائي الأكاديميين الشباب في بلادنا، بضرورة الاطلاع على هذا السِّفر المتين، لأنه منصّة عتيدة في الدفاع عن شخصية الرسول (عليه الصلاة والسلام)، وتفكيك لخطابه في شؤون ثقافية وعلمية وإلهية شتّى.
والله من وراء القصد.