انا والملك!
حسن العاني/
لا تغفلها الروح، لأنها (جعيفر) الطفولة والعطلة والصيف الذي لا مروحة تقينا حرّه، غير مراوح الخوص اليدوية، وأبناء العاشرة أو قريباً من هذا العمر، يهربون إلى الشارع.. يتجمعون تحت طلعة بيت ترسم ظلاً يحمينا من الوهج، وتسمح لنا أن نمارس لعبة (الصقلة).. ما مرّ يوم صيفي من دون هذا الطقس، ونحن نصغي بآذان مفتوحة تترقب وصول (الدراجة البخارية) إلى شارع الشيخ معروف على مبعدة مئة متر من مجلسنا، وصوتها الذي حفظناه عن ظهر قلب، يخبرنا أن موكب الملك قادم، فنطير من غير أجنحةٍ لنقف في صف طويل، ونلقي عليه التحية، ونستقبل تحيته بقلوب دونها قلوب العشاق تخفق سعادة، وما كنا ندري سرّ ذلك التعلق الغريب، و… وسامحوا ذاكرتي إذا التبست عليها التواريخ، فأنا أكتب بطفولتها، وبما كانت عليه من إدراك، لا بما أنا عليه اليوم من شيخوخة، أخاف عليها من كل ما تدركه!!
وإذن، فهو النصف الأول من خمسينات القرن الماضي، والأستاذ جواد (معلم الرياضة)، يصطحب مجموعةً منا –نحن تلاميذ الكرخ الابتدائية- إلى منطقة قريبة من المحطة العالمية، لنقف إلى جانب صفوف طويلة من تلامذة المدراس الأخرى، وذلك لاستقبال الملك والتصفيق له وأداء التحية، و… وها هو يمر قريباً منا بموكب، لا أقلّ منه عدداً، ولا أبسط أُبّهة، كان يجلس في حوض المركبة الخلفي، ويرتدي بدلة فستقية اللون (لم أعد أذكر لون القميص وربطة العنق)، ويزيّن كفّه اليمنى بخاتم من لون البدلة نفسها، وفيما كان موكبه يقطع الطريق ببطء وسط غابة من الورود و أصص الزهور، كانت يده تردّ على تصفيقنا المنفعل بتحيةٍ مهذبة، وابتسامة فرحٍ ناعمة ترسمها شفتاه على وجهه الجميل!!
كل واحد منا، نحن أبناء الابتدائية، كان على قناعة تامة، إنّ الملك قد خصّه وحده بتلك الابتسامة والتحية، وكان ذلك اليوم الذي عرفت لاحقاً أنه يدعى (عيد الشجرة)، ولم أكن أعرف سبب التسمية، ولكن الذي أثار انزعاجي، أنني لم أحصل على أية (عيدية) كما هو الحال في عيدي الفطر والأضحى، ويوم كبرت وتكاثرت الأعياد من حولي (الحب والأم والمرأة والطالب والمعلم.. الخ)، خاب ظني بها جميعاً، حيث لا أحد يسعد جيوبنا، بل الكل يدوخ رؤوسنا بالكلام الفارغ والخطب الرنانة!!
على أية حال، إنه يوم عظيم البركات، ففي الصباح تخلصنا من لغاوي الدراسة، وفي المساء، كانت هناك احتفالية أحلى، فما أن حلّ أول الليل حتى انصرفت بعض الأسر إلى اعداد (صينية) أطعمة، احتفاء بمناسبة تدعى (دورة السنة)، اكتشفت فيما بعد أنها الاسم غير الرسمي لعيد الشجرة و… وتلميذ الصف الثالث أو الرابع الابتدائي في مدرسة الكرخ، الذي هو أنا، لا تعنيه هذه المسميات وأصولها بشيء، فلا أشجار الدنيا ولا دورات السنين لها نكهة في عينيه وذاكرته ولسانه، مثل نكهة الصينيةِ العامرةِ بأنواع الحلوى والكرزات والدولمة والكبة والفواكه و.. وجرت العادة أن يقرأ أحد الصبيان شيئاً من الكتاب الكريم على الصينية، كما هو الحال في طقس (صينية زكريا)، وأنا يومها ولد مطلوب على الموائد، فقد ختمت القرآن في صِغري، وأمتلك صوتاً أعذب من صوت (محمد رفعة) على رواية أمي.. وهكذا انتدبتني جارتنا (أم محمود) لهذه المهمة.. ووضعتْ درهماً في يدي!!
بدأت أقرأ من دون تركيز بعين، وأراقب الصينية بتركيز بالعين الأخرى، ومع ذلك نلتُ أعظم الاستحسان، وملأت أم محمود جيبي بالكرزات، وتناولت العشاء معها ومع أسرتها، وكنت مع كل لقمة ازداد عجباً ودهشة، لأن (حشوة) الدولمة فيها لحم وحشوة ودولمتنا من الرز فقط، ولأن … (كافي فضايح)، و… وفي اليوم الثالث سألنا معلم اللغة العربية عن أجمل شيء رأيناه في عيد الشجرة، وكان كل تلميذ يقول (الملك) فيعلو التصفيق، حتى إذا جاء دوري قلت (أجمل شيء هو دولمة أم محمود)، ولا أدري لماذا تحول التصفيق إلى ضحك، حتى أن المعلم اختنق من الضحك، مع أنني والله العظيم لم أكذب!!