اِدفع الحائط قليلاً!

649

عامر بدر حسون /

بدأت حياتي “الأدبية” كاتباً للأطفال قبل أن “تتدهور” الأمور فأصبح كاتباً للكبار.. فقط!
مع الأطفال لامجال لسوء الفهم، مع الكبار: سوء الفهم هو القاعدة!
كان أول سيناريو كتبته عن سجين يحلم أن يرى الشمس وهي تدخل الى زنزانته، فتعرف الحمامة برغبته (والحمام في القصص يعرف ما نريد) فتأتيه وقد حملت تحت جناحيها حزمة من ضوء الشمس! دخلت الى الزنزانة وفصردت جناحيها فانتشر ضوء الشمس في الزنزانة وأصبح الليل نهاراً!
ومع ضوء الشمس تذكّر السجين جدائل حبيبته الشقراء مثل الشمس!
وكان آخر سيناريو للأطفال نشرته في “طريق الشعب” عندما زار العراق الفنان الكبير فيصل لعيبي وأقام معرضاً في قاعة كولبنكيان في آذار 1978.
كان المعرض مذهلاً في قسوته ودلالاته المباشرة: لقد كرّسه بأكمله للتعذيب، وكانت القاعة مخيفة، فقد امتلأت بلوحات من الحجم الكبير وكل تفصيل فيها كان ينزّ دماً وألماً وأشلاء. كان ذلك اعتراض فيصل لعيبي على التعذيب، وقد مر المعرض بصمت بسبب الخوف السائد يومذاك.
يومها تذكرت قصة عن الفنان الرائد رشاد حاتم، وكان سجيناً مع فهد (مؤسس الحزب الشيوعي العراقي) وكان، كأيّ فنان، الأكثر اختناقاً بجدران السجن وضيقها وازدحامها. وأمام شكواه اقترح عليه فهد:
– بدلاً من التذمّر.. ادفع الحائط قليلاً!
في اليوم التالي استيقظ السجناء وقد وجدوا أنفسهم في عالم جديد!
لقد أمسك الفنان رشاد حاتم بالحجارة وبقطع الطباشير ودفع بها الحائط حتى بانت السماء!.. لقد رسم بحجارته على الحائط المدينة التي يحلم بها: حدائق وبيوتاً ومدارس وأطفالاً وطيوراً وكل ما في الدنيا من جمال وأحلام!
كتبت هذا الحدث كسيناريو وقدمته للفنان فيصل لعيبي.. ربما قلت له إن هذه طريقتي في الاحتجاج على السجن والتعذيب، إذ لطالما اعتقدت أن القبح يحارَب بالجمال، وليس بكشف القبح وفضحه كما فعل هو في معرضه.
اعتقد أنه تقبّل فكرتي بدليل أنه قام برسم السيناريو وتم نشره على صفحة كاملة في جريدة “طريق الشعب.”
كان الزميل عدنان حسين يدير صفحة “مرحباً يا أطفال” الأسبوعية في “طريق الشعب” بالتعاون مع الكاتب الراحل مصطفى عبود. وكنت أنا أعمل في جريدة “الفكر الجديد.” وقد ذهب عدنان حسين عام 1976في دورة صحفية لشهور خارج العراق وطلب مني أن أساهم في إدارة وإعداد الصفحة مع مصطفى عبود. لكن مصطفى عبود كان مربيّاً من طراز رفيع، إذ سلّمني الصفحة كاملة وقال لي بحزم: أنت تستطيع إدارتها وإعدادها!
وكانت ضمن برنامج الصفحة إقامة فعالية للأطفال في نادي الإعلام في شارع “أبو نواس” تستمر أسبوعاً، ووفرنا للأطفال وقتها الأوراق والألوان والسندويشات والأغاني وجعلناهم يلعبون ويرسمون على مقربة من عائلاتهم.. وكنت اختار من رسوماتهم لوحات أعلقها في الصالة حتى اكتمل المعرض.
وفي اليوم السابع كان الختام وتوزيع الجوائز.. لكن للحكاية بقية…
في المنفى أسست أول صفحة للأطفال في الصحافة الفلسطينية وتحديداً في مجلة “فلسطين الثورة.”كنت مسؤول قسم التحقيقات في المجلة، لكن زميلة عراقية التحقت بالمجلة وبقسمي تحديداً، ولم اكن لأسمح لنفسي بإرسالها الى الخنادق والمخيمات.. فقد كانت صحفية عملت في مجلتَيّ “المزمار” و”مجلتي” في العراق. وقد وضعت عيني عليها، وحرصت على إبقائها قريبة مني!
كان اسم هذه الزميلة (رحمة عوض) والتي صارت تُكنّى (بعد زواجنا) أم نوار! وبعد أن كانت موظفة تحت إمرتي قضيت 40 عاماً في إمرتها باعتبارها حبيبتي وزوجتي وتاج راسي.. وما زالت!
وبعد 34 عاماً في المنفى عدت الى بغداد وبدأت افتش عن مطبعة لطباعة كتابي ومجلتي. وعند عثوري على المطبعة المناسبة فوجئت باللطف والترحاب من صاحبها.. ووجدت أنه عندما عاد لطاولته، صفن قليلاً، ونهض وانهال علي بالتقبيل والعناق!
وكانت المفأجاة عندما قال لي:
– أنت لا تعرفني او تتذكرني، لكنني أعرفك!..
أنا الطفل الذي قدّمتَ له الجائزة الأولى في الرسم في معرض “مرحبا يا أطفال”!
————————-
ذكريات بمناسبة يوم الطفل العالمي.