بغداد تغيَّرت.. نعم تغيَّرت

617

عماد جبار /

منذ أن غادرت بغداد عام 2000 لتسلم جائزة في الشعر وبعد أن استقررت في نيوزلندا، زرت بغداد مرات عدة. ولم تكن تلك زيارات قصيرة بل بقيت في إحدى المرات مدة طويلة تقارب العامين. أول مرة كانت نهاية عام 2005، كانت بغداد حزينة على ما يحدث وكانت القاعدة تقلق قلبها بانفجاراتها. عشت مع أهلها الخوف من التفجيرات العشوائية والقتل المجاني. كانت بغداد مثل امرأة مختطفة معصوبة العينين.
ثم بعد ذلك عدت وبقيت فترة طويلة قاربت العامين وكانت عام 2013، عصبت عينا بغداد واختطفت من قبل داعش أيضا. كل ما فيها كان قلقا وكان نبضها خافتا خائفا، حتى عصافيرها لا تقر على أشجارها. وكان وجهها مسودَّاً مثل امرأة حاولت إنقاذ بنيها من حريق كبير.
كنت أتعمد السير الطويل لكي أطمئن على قلوب شوارعها وعيون بيوتها وهي تنام قلقة نومها النزر في ليل الحياة المظلم، وهي تعبر الليالي الداكنة وهي لامَّة أطفالها حولها في برد الحياة وقد كسر السراق زجاج بيتها.
كانت بغداد طوال تلك السنوات تريد أن تبقي على الحياة فيها فقط، وتبعد عيون بنيها القلقة مثل طيور البر عن مشهد الموت.
دخلتها هذه المرة من بابها الغربي كان الخط السريع مزدحما وكان كل ما على جوانبها مغطى بالدخان. رأيت نخيلا مقطوع الرؤوس وجذوعه الموحشة مرمية دون أي اهتمام، نخلة فوق أخرى في بقعة من مقبرة جماعية للنخيل.
وحين بدأت السير فيها واكتشافها عرفت أن بغداد قد تغيَّرت. عادة ما لا تلحظ عيون المقيمين في مدينة حجم التغييرات فيها لأنَّها مشغولة بمتطلبات العيش، لكنّ عيني إنسان عاش في مدن أخرى تلحظ ما تغيَّر، ما نهض فيها بكل شهوة الحياة عصيا صعبا على الاندثار.
بغداد تغيَّرت هذه المرة كثيرا.
ربما يختلف معي حتى أبناؤها، لكني أرى أنَّها تغيَّرت وكأنَّها امرأة أخرى، فلم تعد تلك المرأة الخائفة القلقة على أبنائها. وها هي تنجب أبناء كثيرين وتعلّمهم أشياء أخرى غير الخوف، أشياء جديدة لا عهد لها بها، أشياء جديدة بدأت تتعلمها وتعلمها إياهم.
بيوت جديدة تلمع نوافذها مثل المرايا
أطفال أكثر حرية
آباء أوفر رأفة
بغداد تلعق جراحها مثل ذئبة دافعت عن أبنائها وتنهض. وأبقى أعود إليها أنا الطفل الذي ضيَّعته المدن وأكسبت شوارع البلاد الغريبة رأسه خلجانا من الشيب، أعود إليها لأكتب القصائد عن أطفال يولدون كل يوم وأشجار تعلو قاماتها وعصافير تجد متسعاً من زرقة السماء لأجنحتها.
أعود دائما بعينين ساخنتين بدمع الفرح، أغني لبغداد التي لا تموت.