بلبل عراقي.. سكران!

1٬382

عامر بدر حسون/

بدأت علاقتنا بالبلابل يوم أهدانا احد الأصدقاء ثلاثة بلابل عراقية. قال انه سيغادر الشام لاجئا وانه لا يستطيع اطلاق سراحها لانها ستضيع في الغربة أو شيئا من هذا القبيل! على مضض قبلنا المسؤولية (الوطنية!) وقدمنا للبلابل خدمة «خمس نجوم» على أمل أن آخذها، ذات يوم، الى بستان واطلق سراحها هناك. وبناء على الدلال والعشرة الطيبة تحسنت أخلاق البلابل، وصارت تغادر القفص لتأكل وتشرب معنا وتقف على اكتافنا ورؤوسنا ثم تعود للقفص. وفي النهاية تورطنا مع البلابل عاطفيا بعد ان صار بيننا رز بسمتي وفواكه وحبوب!

لكننا كنا نقول بين حين وآخر:

– لا بد ان نطلق سراحها.. فمكانها البساتين وليس الأقفاص!
مضت سنوات ونحن نؤجل موعد اطلاق سراحها بحجة الحرص عليها من (الضياع)! ووصل الحرص بنا (من أجلها طبعا!) حد اغلاق الشبابيك عند اخراجها من الاقفاص.. وصار كل همنا هو كيف نحميها من الحرية التي فسرناها بالضياع!
وبدأت بجمع تاريخ البلابل، فهذه مسؤوليتي تجاه من هم أمانة في عنقي! وعرفت ان البلبل العراقي السعيد هو الذي يعيش بين النخيل والأنهار. هناك.. كان البلبل يحفر التمرة بمنقاره (كمن يحولها الى كأس!) ثم ينزل الى النهر ويحمل بعض الماء ويضعه داخل التمرة.

ثم يعود الى النهر وهو يحمل قطعة صغيرة من الطين ويغطي بها التمرة.. ويعود في اليوم التالي ويكرر العملية مع تمرات أخرى، وحين ينتهي من عمله يذهب الى التمرة القديمة ويزيل الطين ويشرب الماء الذي يكون قد تحول الى مادة مسكرة!
وآه من صوت البلبل السكران!

لقد لمسنا الفارق في غناء البلابل في موسم التين والتمر وتصنيعها لخمرتها حتى وهي في القفص! كانت أم نوار (زوجتي) تقول انها بلابل طيبة وساذجة وسترمي نفسها بين مخالب أول قط تراه من طيبتها! وكانت تسأل: ما الضمانة ان لا تغادر البستان وتعود للمدينة فيهجم عليها القط؟!

– ما الضمانة ان لا تقع البلابل الطيبة والبريئة بيد صياد عابث؟ الخلاصة ان كل الطرق كانت تقود البلابل الى البقاء في القفص!
وذات يوم بادر أحد البلابل بالهرب من القفص والبيت.. ناديناه فلم يعد كما في مرات سابقة.. بل فضل الطيران.
كنا نتابعه وهو يطير لمسافات قليلة ويتوقف ثم يعود للطيران.. وفجأة مد جناحيه الصغيرين وطار عاليا وبعيدا مثل نسر مولع بالقمم!

لقد أختار الحرية وفضلها على البسمتي والفواكه وخمرة القفص! ودون اتفاق مسبق، وقفت وأم نوار في النافذة ممسكين بالقفص وفتحنا الباب في مواجهة الفضاء.. فطار واحد، بعد تردد، ثم تبعه الثاني وكررا نفس عملية تدريب الجناح على الطيران ثم انطلقا بعيدا!

أم نوار صرخت قائلة ان قطا قريبا هجم على احدهما وأكله.. فبكت! لكنني لم أر ذلك.. لقد رأيت انه هرب! وحتى اللحظة لم نصل لاتفاق على المشهد الأخير!

في كل الأحوال للحرية ضحايا وثمن عند البشر و..عند البلابل!

الفرق بين البلبل والانسان أن البلبل مستعد لدفع الثمن حتى لو كانت القطة بانتظاره!

أما الانسان (الذي في بالي!) فهو دائم الحنين للقفص.. ودائم التذمر من هذا الفضاء الرحب للروح والعقل وامكانياته الجبارة خارج القفص!