جارتنا الغالية
رئيس التحرير /
آخر مرة رأيت أم مسيّر جارتنا البالغة من العمر 70 عاماً تضحك بسخرية حين كانت تجلس عصراً في باب دارها بداية العام 1981 عندما جاء “طارش” من الوحدة العسكرية التي ينتسب لها ولدها الأوسط رحيّم وهو يسأل زوجها الذي فتح ذلك الباب ناوياً الذهاب الى سوق المدينة قائلاً: “عمي انت ابو رحيّم” فقال مازحاً “والله ما أدري اسألوا أمه”، بعد ذلك التاريخ بأيام والى سنوات طويلة أخرى لم تضحك أم مسيّر أبداً، فقد جاءتها أخبار جبهات القتال المميتة أن الوحدة التي ينتسب لها رحيّم تعرضت إلى هجوم إيراني في البصرة ولا يعرف أحد مصيره، قضت أيامها الأولى تفترش الطريق العام الذي يربط كراج المدينة ببيتها متكئة على عمود الكهرباء بدءاً من الصباح الى المغرب تتخللها فترة الظهيرة التي تعود فيها لتأدية صلاة الظهر والعصر.
أكثر من تسعين يوماً وجارتنا العجوز أم مسيّر على حالها، تسأل كل من يمر أمامها مرتدياً بدلة الجيش عن أخبار رحيّم دون جدوى بعد أن أضربت عن الطعام بشكل شبه كامل، لم نعد نراها مثل السنين الماضية عندما كانت تجلس أمام واجهة دارها ترد التحية على من يلقيها عليها وتتجاذب أطراف الحديث مع نسوة الشارع.. كثرت التجاعيد على خديها بكل قسوة ورسم الحزن ملامحه على أطراف عينيها، وظهرها أخذ يتقوّس عاماً بعد آخر، ورحيّم لا “حس ولا خبر”… الراديو الذي اشترته نكاد نسمع صوته طوال الليل وهو ينقل أخبار الحرب والقتال وأحوال الأسرى من إذاعة طهران… هذا الأسير يسلم على أهله، وذاك يكيل السباب للنظام والحكومة وآخر يكتفي بدعوة الجنود والضباط الى تسليم أنفسهم أو الفرار من الجيش، إلا رحيّم لم تسمع له صوتاً… وشيئاً فشيئاً أخذت تقطع الأمل مع مرور الشهور قبل أن تتلقى أول رسالة منه بعد أكثر من عام ونصف على تاريخ أسره يخبرهم انه بخير ويعدهم أنه سيتزوج حالما يعود دون أن ينسى إيصال سلامه وتحياته الى بيوت الجيران.. أبو هادي.. وغانم ناصر وموسى كريم وغيرهم… عاد ولدها في مطلع التسعينيات إثر تداعيات احتلال الكويت مع أعداد كثيرة من أسرى الحرب، وقد رأيته عقب العام 2003 يبيع الفواكه والخضر بعد نحو 22 سنة على رحلة الفراق فأخبرته بحال والدته من بعده التي رحلت بعد عودته ببضع سنين رحمها الله… ما زالت صورتها تمتثل أمامي كلما طرقت اسمي مفردة الأسرى أو الحروب، أسوة بمشاهد أرتال التوابيت وصراخ الأمهات والزوجات والآباء وهم يودعون أعزاءهم حال اشتداد المعارك في هذه الجبهة أو تلك… لعن الله الحروب التي لا تنتهي مأساتها بانتهائها، بل تترك في ذاكرة الأجيال خزيناً من الأوجاع والمعاناة.