جدرانها من الطين، وسقوفها المصنوعة من “البواري” وجذوع النخيل، متجاورةٌ بارتفاع واحد، لا يفصل أحدها عن الآخر سوى بضع صفائح معدنية مملوءة بالتراب، يقوم بعضها فوق بعض حتى تصل الى علو يقرب من المتر، كانت تؤدي دور “الستارة” التي تفصل بين الجيران، ولم يحصل ولو لنصف مرة أن حدثتْ مشكلة، لأن فتى أو شاباً أو رجلاً ترك عينيه تختلسان نظرة عبر ذلك السياج الواطئ، الى نساء جيرانه. وآية ذلك ان ناس بغداد يومها كانت تعيش عصر الأخلاق الذهبي، ومفردة “يومها” تعني أنني أتحدث عن قرابة سبعين مضت، وعن طفولتي قبل الذهاب الى المدرسة، وأنا ابن أربع أو دون الخمس سنين في أعلى الافتراضات، مثلما تعني أنني أتحدث عن كرخ بغداد، وعن محلة “الرحمانية” تحديداً، ومحلات الكرخ الشعبية المستنسخة عن بعضها البعض في بساطتها وتخلفها ونُبلِها..
هو صيف رمضاني، أو رمضان حلّ في الصيف، وأفضل وسائل تبريدنا هي “المهافيف” و”حِبّ الماء” والقُلل، وبلا استثناء، يبدأ أهالي الرحمانية هجرتهم الاختيارية يومياً قبل مدفع الإفطار، ووجهتهم واحدة: سطوح المنازل الترابية التي يتم رشُها بالماء حتى تغرق، وتبدأ هذه العملية منذ العصر، حتى اذا اقترب المغرب تخلص التراب من حماوة الصيف المقرف، وتولى أفراد الأسرة، كبارهم وصغارهم نقل الأفرشة والصحون وقدور الطعام الى السطح..
ما أهنأ ذاكرتي بذلك الزمن الموشوم من أخمصه الى هامته بالمتاعب، ولكنه جميل بعفويته وطيبته.. زمن السوالف واللعب وزيارات الجيران الليلية والمقاهي التي تسهر حتى السحور، قبل أن يمزق الوافد الحضاري “التلفزيون” جلساتها، ثم يأتي الإنترنت ومشتقاته على ما تبقى من عذوبةٍ وبراءة وبساطة.. والمشهد اليومي لا يتغير طوال الشهر الكريم، وأبطاله نحن صغار الرحمانية، فقبل الإفطار تقع على عاتقنا مهمة، لا أحلى منها على أرواحنا ولا أمتع، وهي نقل صحون الطعام بكل مفردات الأطعمة ومسمياتها الى الجيران، في عمليات تبادل شفافة وواسعة، وقبل ذلك إنسانية، حتى تعلق الأمر بالعوائل الفقيرة، فهي –أكاد أقسم- لا تطبخ طعاماً في رمضان، لأنها لا تدري من أين تأتي أواني الحساء والكبّة والدولمة والمقليات وأنواع المرق والرز.. أما الذي يبلغ بطفولتنا ذروة المسرة، فيبدأ بعد الإفطار، لكوننا نقوم بعمليات تبادل جديدة لأنواع “الحلويات والفواكه” من سطح الى سطح، حيث لا فاصلة ولا ستارة، سوى صفائح التراب المعدنية التي نعبرها بطريقة تحاول إشعار الآخرين بأننا من ذرية طرزان، فاذا انتهينا خرجنا الى “الماجينا”..
هاهي ليلة رمضانية، سمعت فيها لأول مرة حديثاً غريباً بين أقراني الأولاد، عن السرقات التي يمارسونها في أثناء نقلهم الأطعمة، وعلى وجه الخصوص، الفواكه “الكوجة-التفاح العراقي-العنب- المشمش- العرموط..الخ”، والأغرب أنهم يسرقون من فواكه عوائلهم، وحصصهم موجودة…. وكانوا شديدي المباهاة بسرقاتهم، ويضفون عليها صفة البطولة، وحين أخبرتهم بأنني لا أعرف هذه “اللعبة”، أطلقوا عليّ مفردة (الخوّاف)، وهو نعت لا يشرّف الطفولة، وأصبحت في نظرهم من فصيلة الجبناء التي لا تستحق الاحترام، وكان عليّ أن أسرق لكي أدفع عن نفسي تلك التهمة التي جعلتني ذليلاً ضعيفاً في نظري قبل نظرهم.. وصادف في تلك الليلة أو التي بعدها، أن نقلت صحناً من “الزلابية والبقلاوة” الى أحد الجيران فـ…. فسرقتُ.. ونجحتُ نجاحاً باهراً يؤهلني لتحدي أشطر سارق منهم، ونقلتُ لرفاقي المناضلين بطولتي، واطلعتهم على جيوبي المليئة بالحلويات، ووزعتها عليهم، وبذلك تحررتُ من تاريخي المخجل، ولكن قبل أن أذهب الى الفراش، اكتشفتْ أمي، رحمها الله، (الدهن الحر)، وقد رسم آثاره الفضائحية على جيوب دشداشتي وملابسي، فكانت ليلة لا يتمناها المرء حتى لعدوه!!