حرفانِ .. ثالثهما الشعرُ
احمد عبد الحسين/
لا يكفُّ الإنسان عن ملاحقة معنى لحياته.
صحيح أنّه يشترك مع سائر الكائنات في إرادة العيش وحفظ النوع، لكنه الكائنُ الوحيد بينها الذي لا يريدُ العيشَ كيفما اتفقّ، بلْ يعرف أن ثمة جوهراً لحياته، معنى يحرصُ على أنْ لا يبدّده في العيش.
هذا الجوهريّ الذي في الإنسان هو ما أملي عليه أن يكون على هذا النحو من الفرادة والغرابة. هو وحده الذي تساءل عن الوجود، فأصبح محكوماً بقَدَره باعتباره الثغرة التي يطلّ منها العالمُ على الغيب، والعتبةَ التي يقفُ كلّ مجهول عليها بانتظار أن يدخل.
وباللغة وحدها تمكّن من أن يُنشئ فرادته؛ فمن دون صفته متكلماً لم يكنْ ليقيّض للإنسان التحاورُ مع نفسه والآفاق وصولاً إلى ما هو عليه اليوم، إذ هو ـ وحده من دون كلّ ما في الكون ـ “الأمينُ والحافظ التأريخي الوحيد للوجود”.
«اللغة بيت الوجود»، عبارة هيدغر الأثيرة، تلخّص ما يمثله النشاط اللغويّ من أهمية حاسمة لمعرفة الإنسان نفسه والعالم؛ من خلال قدرته على إسكان الوجود في بيت. فما لا سكنَ له لا يمكن أن يفهم أو يُحبّ. ما يبقى هائماً متشرّداً لا يمكن أن يقال أو يعبّر عنه أو يقال.
تلك معجزة الإنسان: أنه يتكلمُ الوجودَ. لكنه، هو الذي يأبى أن يعيش كيفما اتفق، يأبى أن يتكلم كيفما اتفق أيضاً. لقد حرص على أن يقول ذاته والعالمَ فنّاً، وجهد على أنْ لا يقدّم فكرته غُفلاً، بل ينشئ منها عملاً احترافياً، فكان سكنه على هذه الأرض شعرياً.
هكذا .. في كلّ قول مسّ من الشعر، ما دامتْ كلّ كلمة للإنسان ساعيةً إلى فهم الجوهريّ الذي فيه. ومهما كان الكلام يومياً إجرائياً معاداً ومكرراً، فإنّ الشعر يستوطنه أبداً، سواء قصد الإنسان ذلك أم لم يقصد.
للشعرِ ـ بما هو استكناه للغيب وبحث عن المعنى ـ حصةٌ في كلّ كلمةٍ قيلتْ أو ستقال منذُ بدء العالم وحتى اندثاره.
كلّ متكلمٍ يستوطنه شاعرٌ ما.
وكلّ حرفين .. ثالثهما الشعر.