حرية الصحافة !

185

حسن العاني /

الكاتب الساخر، هو الذي يحمل شهادة دكتوراه في حفظ (النكات)، وأفضل من يجيد إلقاءها. هكذا يظن بعض الناس، وهذا وهم كبير، فأنا –مثلاً- من المحسوبين على كتّاب المقالات الساخرة، لكنني لا أحفظ النكات، ولا أحسن روايتها ولا أميل اليها. لكن هذا لا يعني أنني إنسان معقد أو لا يبتسم، بدليل أنني عندما أسمع أحدهم يتحدث عن (حرية التعبير) أخرب من الضحك، وأنظر إلى هذه العبارة على أنها نكتة ساخنة، تجعل السامع ينقلب على قفاه!
ومن المفيد الإشارة سلفاً إلى أن مفهوم حرية التعبير -عموماً- ، وفي ميدان الصحافة خصوصاً، لم يكن وارداً في قاموس النظام السابق إطلاقاً، وعليه فهو مفهوم جديد في (العراق الجديد)، كما يحلو للبعض تسميته، لكن طبيعة فهمي له تختلف عن فهم الآخرين، وعلى وجه الدقة النسبة العظمى منهم. أنا لا أنكر –بالطبع- أن نِصاب الحرية الصحفية متحقق حالياً بنسبة حضور غير مسبوقة، ربما تنافس أعرق البلدان في هذا المجال، وأقول: هذا صحيح مئة بالمئة، والصحفي قادر على كتابة ما يريد بملء فمه وقلمه وقناعته، ينقد الحكومة والبرلمان وأفراد الحماية (في حدود النقد الموضوعي، واللياقة الأدبية، وضوابط الأعراف الأخلاقية، لأن الشتّامين وأصحاب الأقلام البذيئة، ليسوا من أبناء المهنة، بل إنهم أولاد شوارع)، من دون أن يعترض عليه أحد، أو يجتثه، أو يخضعه للمساءلة والعدالة، أو يرميه برباعية الإرهاب!!
أقول: هذا صحيح حقاً، ومساحة التعبير -على وفق هذه المعايير- مفتوحة بلا نهايات، بل إنها في بعض الأحيان، عندما ترتفع مناسيبها وتبلغ الذروة، تتحول إلى نوع من ( الفلتان) الذي تعترض عليه حتى مؤسسات الحرية والديمقراطية في باريس ولندن وشارع المتنبي!! وبرغم هذا كله فإن فهمي لحرية التعبير ومعاييرها، يذهب إلى خطوة أوسع وأبعد من ناحية، وأجزم أنه أكثر أهمية من ناحية أخرى، من ذلك مثلاً أنني لا أستوعب معنى أن يهبني ولي أمري حرية مطلقة، مشرعة الأبواب، في أن أقول له كل ما يدور في رأسي من أفكار وهواجس وأمنيات ورغبات خاصة أو عامة، وما أعانيه من متاعب ومشكلات قد تخصني، وقد تخص الآخرين، وقد تخصنا جميعاً، وأن معظم هذه المتاعب والمشكلات، بسببه وبسبب سياساته، وهو يعطيني (الأذن الطرشة)، وربما تقوم أذنه اليمنى بتسلم (طروحاتي) فيما تتولى اليسرى تفريغ شحنتها، أو أنه يسمعني بصدر رحب وإلى آخر كلمة، ويشاطرني الحزن والألم، ثم يقول (لاحول ولا قوة إلا بالله)، ويمضي إلى حال سبيله وكأنه لم يسمع حرفاً واحداً… أنا لا أريد حرية تعبير من دون مضمون، حرية تنظر إلى الصحافة على أنها مجموعة سطور على ورق أبيض، لا تقدِّم ولا تؤخِّر، ولا تضر ولا تنفع … الحرية عندي، وعند أهل المهنة، فعل مؤثر.. إذ لا أعترف، ولا نعترف، بحرية تُوزَّع بالمجان في عبوات بلاستيكية، كما توزَّع معونات الإغاثة، لا أعترف، ولا نعترف، بحرية تعبير لا تزلزل الأرض تحت أقدام المسؤول، ولا تهتز لها شوارب الحكومة، ولا توقظ البرلمان ولا تبني بيتاً ومستوصفاً ومدرسة …