حكاية طبيب!!
حسن العاني/
لعل العبقرية تقّدم نفسها في وقتٍ مبكر من حياة الانسان، وغالباً ما يمكن تلمّسُها منذ الطفولة، وهذا هو الحال بالنسبةِ للدكتور مقداد، فابتداء من الروضة، وانتهاء بحصوله على شهادة (طبيب)، وهو موضعُ إعجابٍ كبير من معلميه ومدرسيه وأساتذتهِ، لما أظهره من نباهةٍ وذكاء وتفّوقٍ دراسي، ولم يكن غريباً عليه، أنْ يحظى بالاعجاب ذاتهِ أثناء سنواتهِ الأولى في المستشفى، فقد كان رؤساؤه يشيدون بقدراتهِ الطبيةِ الاستثنائيةِ من ناحية، وباخلاصهِ في اداء واجباته من ناحية أخرى!!
لم يمضِ وقتٌ طويل على ممارستهِ المهنة طبيباً اختصاصاً في الجهاز الهضمي، حتى افتتح عيادةً خارجيةً خاصةً به، وقد سبقته شهرته، لذلك كانت عيادته تستقبل عدداً من المرضى يفوق ساعات الدوام، ومع هذا حرصَ الرجل على عادته، أن يولي المريض أكبر قدرٍ من العناية، ومتابعة أوضاعه الصحية والمعاشية، ومن هنا كان في مراتٍ عديدة لا يستوفي مبلغ (الكشفية)، ولا يترددُ في بعض الأحيان عن شراء الدواء لمرضاه الفقراء، على حسابه الخاص!!
في سنوات قلائل، طغتْ شهرته العلمية والانسانية حتى غطتِ الآفاق، وما لم يتحسبْ له الرجل أن يأتيه إستدعاء رسمي من (ديوان الرئاسة) المنحل، حيث تمّ اختياره طبيباً من أطباء القصر الجمهوري، وفيما قام مدير المستشفى وزملاؤهُ الأطباء، بتقديم آحرّ التهاني له، لأن بواباتِ الجاهِ والثراء والسلطة تفتّحتْ أمامه، قام هو بالاعتذار من (الديوان)، لأنّ هناك من هو أقدم منه وأكفأ، ولأن خبرته الطبية مازالت في أول الطريق، وقد فاته إن مثل هذا الاعتذار على ما فيه من شفافيةٍ وخلقٍ رفيع، سيدخله في خانة المغضوب عليهم، ويودي به الى السجن، و… وثلاث سنوات في التوقيفِ هي عقوبته من دون سين ولا جيم ولا محاكمة ولا قرار حكم… غادر بعدها المعتقل وهو ممنوعٌ من مزاولة مهنته، وهكذا تدبّر أمره وهرب الى الخارج لتستقبله (كندا) إستقبال العالِم المحتفى به، رئاسة قسم وراتباً فخماً، وسكناً من أفضل طراز، وهي أعوام سعادة ومعرفة واطلاع، لكن حنينه لعراقهِ وأهله وناسِهِ ظلّ مستعراً، ولهذا سارع بالعودة الى الوطن بعد سقوط النظام!!
أنهى الرجل علاقته بمؤسسة الطب الكندية التي منحته كتاب شكر ومبلغ (500) ألف دولار، وأبلغته إنه انسانٌ مرحب به في أي وقت، وهكذا عاد الى بلده، وقدّم طلباً للعودة الى عمله، وفي يوم المقابلة، وقف أمام اللجنة التي نظرت إليه بريبة، وسألته عن تأريخ إنتمائه الى حزب البعث المنحل، لأن بين يديها كتاباً صادراً عن ديوان الرئاسة يقضي بتعيينه طبيباً من أطباء القصر، وليس بين يديه كتاب يفيد أنه تعرض الى السجن، وفي لحظات دهشتهِ واستغرابهِ، فضّل الصمت وعدم الرد على الأسئلة، ولم ينمْ ليلته في فراش الوطن، فقد عاد بأسرع وقت الى البلد الذي احترم كفاءته..