حَوبة اليُتم!

223

جمعة اللامي/

هذان بيتان لأبي العتاهية في رثاء أحد ولده، وهما بيتان إن وُجِدا على قرطاس مهمل عند زاوية على طريق، أو خُطّا بماء الذهب في مجلس أمير زمانه، يترجمان لبليغ في القول، وفلسفة في الفكر، وعظة في تقلّب الحدثان.
كفى حزناً بدفنك ثمَّ إني
نفضت تراب قبركَ من يديا
وكانت في حياتك لي عظات
وأنت اليوم أوعظ منك حيّا
(أبو العتاهية)
لكنهما – فوق هذا وذاك وبعد تلك وهاتيك- يقولان ما يريد قوله من تيتّمَ على كبر، سواء كان والداً أم أخاً، خفيراً أم أميراً، مُقدّم الفرسان أم أحد رعاة العرب. وهذه زبدة بين يدي من يريد معرفة، أي ألم ينطوي عليه قلب من فارق ولده وهو في سن الأربعين، وأي عذاب يطويه بين جناحيه من فقد أباه وهو في ما بعد الخمسين!
وهكذا هو اليتم المتأخر، يصيب الوالد كما ينوش الابن. ومَنْ يتفكر قليلاً في هذه الحالة، ويعطي بداية لسعادة عقلية قلَّ أن نجدها عند كثير من الأحياء، ويُوهب درجات من الحكمة، لا يرتادها إلاّ الذي عزم على اللعب مع الزمان وجهاً لوجه. والزمان موجود من حيث أردنا أم رفضنا، فهو قوة هائلة تتشكل من العدم، ثم نصفها مرة بالوقت او اليوم أو الساعة أو اللحظة، بينما هي ماثلة في التاريخ والتقويم والأعداد.
واليتم المتأخر اعتراكٌ مع الزمان، ومصارعةٌ له، وتزامنٌ معه.
وهذا سجلُّ الذين تيتموا على كبر، او في وقت متقدم من أعمارهم، يريك أنهم أصحاب أفكار، وأرباب قضايا، وروّاد رسالات كبرى، فكأن الذي يولد يتيم الأب، ثم لا يلبث إلا قليلاً حتى تفارقه أمه، ثم يفارقه أعمامه وبعض صحابته، هو الذي يأتيك بأنباء اليتم المتأخر.
والصورة الأبلغ لليتم المتأخر، هو الرسول الأكرم عليه أفضل الصلوات والسلام، فهو الصورة الأكثر بلاغة لليتم، صغيراً وشاباً وكهلاً. لكنَّه – عليه أفضل الصلوات والسلام- امتحن نفسه بالألم، وصفّى روحه بأنه استجاب لإعداد الله تعالى له لمهمته العظمى، فكان مُبلّغ رسالة إنسانية، لا يعرفها إلاّ من خبر دورة الزمن وحركة الأفلاك.
وكان جرير الشاعر يقول: شيّبتني هذه الجنائز، كلما رأى جنازة، وهو مُقدم على كتابة قصيدة. وهذا يُتم القصائد التي تنتظر الكتابة، وهذا قول له قابل في يوم سيقبل إن شاء الله. لكن كل حالات اليتم في كفة، وحالة يتم محمد بن عبد الله في كفة. فطوبى لعين ترى، وسُعدى لعقل يعي، وبُشرى لمن اقتدى بسيد الرسل والإنسان الكامل.