خوسيه مارتي الذي أحبّنا.. فأنكرناه

20

عبد المنعم الأعسم

قبل مائة وأربعين سنةٍ، اغتيل الشاعر والصحفي القومي الكوبي خوسيه مارتي، غداة عودته إلى بلاده من رحلة قسرية طويلة في المنافي، فرضتها عليه الإلغارشية الحاكمة آنذاك. وبعد نحو أربعة عقود من ذلك الوقت، وقف أرنست همنغواي إزاء العتبة التي سقط فيها مارتي، فاستدل بالمشهد الفاجع إلى قصته المعروفة “لن يذهب موته سدىً”، التي تتحدث عن شاب جامح يعود إلى بلدته من منفاه، فيسقط برصاص الجماعات الإرهابية المنفلتة.
وإذ أحيى الكثير من الحلقات الثقافية والسياسية، في كوبا وأميركا اللاتينية ودول أوربية، مطلع هذا العام 2025، الذكرى 140 لرحيل الكاتب، فإن غياب الاهتمام العربي عن المناسبة يعد مفارقة سوداء، ونكراناً للجميل، أخذاً في الاعتبار ذلك الكم الهائل من الشهادات التي أدلى بها مارتي، شعراً وقصصاً ومطالعات، في الدفاع عن الآيات الحضارية والسياسية للعرب، وعرب شمال إفريقيا بوجه خاص.
لقد تشكلت صورة العرب في أعمال مارتي بأبهى ما تكون عليه، مقارنة بالاستعراضات التاريخية، إذ يتجاوز إعجابه بالمصريين والمغاربة في مواجهة الغزاة الطليان والفرنسيين إلى شاعرية مسكونة بالحرارة، حيث “تلك المخلوقات الرشيقة المهيبة التي تنتمي إلى الشعب الأكثر نبلاً وأناقة على سطح الأرض.” وفي مسرحيته (واقعة تطوان)، يعكف مارتي على بناء مسلّة من العواطف والرؤى، ويوصل نهاياتها الكوبية ببدايات عربية، بالانتماء إلى الحقبة والمصير، وإلى نزعة التحرر من الراهن.. راهن القرن التاسع عشر.
وتشي قصائد عدة لمارتي، مترجمة إلى اللغة العربية، بومضات ساطعة فصيحة، مثل (أغنية خريفية) و(غبار جناحي الفراشة) و(الراقصة الإسبانية).. وفي قصيدة (عشب) المترجمة إلى العربية، وهي تحولات إيقاعية في ألوان البيئة العربية القديمة. أما في ديوانه (اسماعيل الصغير)، فاستوحى الشاعر بلاد النيل كوناً له ولابنه، يقول: “حقق الإنسان هنا ما لم يحققه شعب على وجه الأرض، عندما نقش أحلامه على الحجر.” فيما تزدحم عوالم مارتي وأشعاره بالكثير من المفارقات والملصقات العربية المستعارة من تاريخ بعيد: رمسيس الثاني، وقصر الحمراء، ومنارة الأقصر، وجامع الدرة، ومكتبة الإسكندرية، وأقواس دمشق، وبلاد الرافدين، وعقيق الجزيرة، ونخيل المغرب، وعطور اليمن، وخيول البادية، ومنسوجات ومصوغات وتوابل الخلجان البعيدة. وفي كراس له بعنوان (ملاحظات) يتحدث عن أمير عربي “يرفض – بعد انتهاء معركة ناجحة له – أن يهدم خيمته، لأن حمامتين أقامتا عشهما في سقف الخيمة.. وبعد سنوات وعندما عاد الأمير، أسس في المكان نفسه مدينة الفسطاط.”
إن السنوات التي قضاها خوسيه مارتي في إسبانيا، لاجئاً، وضعته على احتكاك مباشر مع الثقافة العربية، ومع مصادرها الرحبة، وقد برع في إسقاط الحضور العربي الإسلامي إسقاطاً شعرياً على وجه (الراقصة الإسبانية)، فجاءت قصيدته بمثابة آنية مسكونة بملامح امرأة جامحة “نظراتها عربية وحاجباها عربيان.”
نعم، هو شاعر كوبي أحبّ العرب بكل جوارحه، فأنكره العرب بكل الجحود.