خيال مستقبلي
حسن العاني /
منذ بضعة أشهر وأنا أسيرُ مفردةٍ استوقفتني كثيراً، على الرغم من أنها جزء من الموروث المعرفي العام للناس، وهذه المفردة اسمها (الخيال) –ويقابلها الواقع-. وعلى وفق معلوماتي الشخصية، يعدُّ الخيال من أكثر القضايا أو المفاهيم تداولاً وشيوعاً، وقد وصفه أحد المفكرين بأنه واحد من أهم القواسم المشتركة في حياة البشرية، فهناك الخيال العلمي مثلاً، الذي يغطي رقعة العلوم جميعاً، ومعلوم لدينا اليوم أن الكثير الكثير من الاختراعات والابتكارات بدأت على هيأة خيالاتٍ ربما أثارت الدهشة والسخرية والضحك قبل أن تصبح من أعظم المنجزات التي خدمت الإنسانية. وهناك الخيال الأدبي الذي يعد الأكثر انتشاراً، حتى قال البعض ان عبارة (أعذب الشعر أكذبه) يراد بها جماليات الصور الشعرية ومبالغتها وتأملاتها، أو جماليات الخيال وما يتفتق عنه ذهن الشاعر وقدرات مخيلته على التحليق بعيداً عن أرض الواقع. ويغطي الخيال الأدبي، زيادة على الشعر، فنون الرواية والخاطرة والقصة والمسرح و… وهل البلاغة إلا إطلاق الخيال إلى أبعد مدياته لاقتناص أحلى صور الاستعارة والطباق والجناس والكناية.. الخ؟ ويمكن بالقدر نفسه الحديثُ عن هذه المفردة السحرية الكبيرة الشاملة في ميادين النحت والرسم والسينما والموسيقى والرقص والغناء.. ويذهب بعض الباحثين الى القول بأن شيئاً لا يستهان به من الخيال قد رافق الإنسان القديم عندما كان يرسم على صخور الكهوف، كما رافقه في صياغة أساطيره وابتكار آلهته و.. وإن الأحلام التي تبدو مستحيلة في لحظتها أو مرحلتها، ما هي إلا خيالات. ومن هنا، وهذا أمر بالغ الأهمية فإن الناس تنظر بإيجابية عالية إلى كبار المبدعين وإنجازاتهم الغريبة أحياناً، وتصفهم بعبارة شائعة: إنهم يتمتعون بخيال خصب!!
من أغرب الغرائب حقاً، أن السياسة التي تقود السلطة والأدب والفن والعلم وبيدها مقاليد كل شيء، هي الوحيدة التي وضعت بينها وبين الخيال آية الكرسي والمعوِّذتين، مع أن زوجتي ترى غير ذلك، فهي تعتقد بأن الحكومة حين تبدو وكأنها ساكتة عن تقديم الخدمات للمواطنين، فلكونها “تتخيل” بأنها قدمت لهم كل شيء!! وأياً كان الموقف سأزعم شخصياً، وعلى استحياء شديد، بأنني أول عراقي اكتشف، أو بالأحرى ابتكر “الخيال السياسي” وطرحه بصورة علنيّة على صفحات مجلة “الشبكة العراقية” الغراء، وأنا انتقل بمخيلتي السياسية إلى عام (2029)، أي بعد عشر سنوات من الآن، حيث ظهر إلى الوجود “إقليم الجنوب العظيم” –هذا هو اسمه بعد أن انضمتْ إليه محافظات واسط والنجف وبابل وكربلاء- مثلما ظهر “إقليم الشمال البطل بنكهة كردية”- هذا هو اسمه بعد أن زحفت حدوده من إقليم كردستان الحالي لتشمل محافظات “التأميم ونينوى وديالى”، وفي عام (2030)، أي بعد مرور سنة واحدة على إعلان الإقليمين، ستظهر بوادر خلاف بينهما حول حجم “المظلومية الإدارية” التي تعرض لها كل واحد منهما نتيجة دكتاتورية بغداد “يعني المركز” وتفرّدها بالقرار، وسيطالب مؤيدو إقليم الجنوب بحقهم في ضم العاصمة تحت جناحيه، ويذكرون مئة سبب وسبب لهذه المطالبة وهذا الحق، وسيفعل مؤيدو إقليم الشمال الشيء نفسه. ومن باب شراء الأصوات والذمم سيقوم “الجنوب” بتوزيع ملايين الدولارات على أهالي بغداد، بحجة أن العاصمة لا تمتلك نفطاً ولا معادن ولا زراعة ولا سياحة ولا ثروة من أي نوع “وهي حجة مقبولة ظاهرياً”، وسيخرج الفقراء والعاطلون عن العمل تأييداً لهم، وبدوره سيعمد “الشمال” إلى الشيء نفسه ويخرج الفقراء والعاطلون تأييداً لهم، وحيث لا يوجد حل وسط فسوف ترتفع وتيرة الصراع وتنذر بالخطر قبل أن يتدخل مجلس الأمن ويندد بأطماع الإقليمين، ويقرر في جلسة طارئة “أن بغداد التي بناها المنصور ودمرتها الفيدرالية، تعدُّ مدينة منزوعة السلاح، وغير مشمولة بالمناطق المتنازع عليها، ويمثل موقعها الحدود الدولية الفاصلة بين الإقليمين، على أن يتكفل إقليم الشمال بإعادتها في أشهر الصيف، وإقليم الجنوب في باقي أشهر السنة”. وكنت أتمنى أن أعرف كيف سيكون موقف الطبقة السياسية في العاصمة المنشغلة بالكابينة الوزارية وتوزيع المناصب وكأن الأمر لا يعنيها، لكن المؤسف أن خيالي السياسي تعرض إلى الجفاف والنضوب من شدة التعب..