خَبل التسطيح العام

1٬192

حسام السراي/

يستسلم عديد من البشر، عراقيون منهم بلا شك، لجرّافات النزعة الاستهلاكيّة، بما تستبطنه من أنانية تلقٍ يرفض إعمال الذهن وتشغيل الحواس. ألف باء المعادلة القائمة: فردٌ مقيّد في إطار متكلّف له اشتراطاته، مثل ذلك الذي يذهب إلى السوق، فيجد نفسه في حومة باعة محترفين، أتقنوا فرض بضاعتهم على ذائقة، حاملها يؤجّل أي إرادة للبحث في منتج الآخر، أو لقياس درجة الفائدة بعد انقضاء الانبهار الشخصيّ.

أنْ تستهلك الموادّ والتقانات، ففيها مسايرة لتلك الصيرورات والتفاعل معها؛ لأنّها من مسلّمات عصرنا الحديث ومتطلّباته أيضاً، السقطة التي تتوقّف معها الذات، أنّك تستغرق في الاستهلاك من دون تدبّر ولا تنتج في المقام نفسه، تتلقى أفكاراً وتلوك القشور منها، ودماغك لا يُزعجه السير الأعمى في ركبها، فالمستهلك في هذا المحل ليس مدخّناً يضع السيجارة في فمه وهو الذي حفظ عن ظهر قلب عبارة التحذير المثبّتة على العلبة، برغم أنّ الإدمان متقارب ما بين النيكوتين والانقياد لأي هوس يبثّه “أندرويد” الهواتف أو صفحات مواقع التواصل، الفرق الوحيد هو في المادّة التي تستقطب حواسك؛ لأنّ التبغ محسوس وفيه ومنه روائح ودخان، أمّا موضات التطوّر التقاني، فهي سراب لا يمكن أن تقبض عليه كاملاً بمفردك أنت أو حتّى ملايين غيرك، يمسخك باللانهائية واللااستقرار الخاضع لهما، وتلك من سمات العصر الذي حوّل الموت إلى وجبة سريعة وآنية من التشاؤم والحزن العام.
قبل عدة أشهر أطلّ علينا عبر الفيسبوك، شاعر عراقيّ مروّجاً لما سماه بـ”الوعي الجديد” لشاب يودّ التعريف به، وهو شائع بين روّاد السوشيال الميديا بنبرة صوت مختلفة بميوعتها عن محيط من ذكور اليوم الأجلاف، ممّن لم يدركوا من العراق إلا التباسه وعنفه الراهن. المعضلة في استماتة الشاعر بإيراد حكم قطعيّ عن الجديد في منطق الشاب الغضّ، والواقع يقول: إنّ عبارات المُمتدَح أيسر من أن تكون خطاباً، ليت المؤاخذة تقف عند حدود تبنّي الشاعر غير المنطقي، إنّما تشمل هذا الاستقتال في البقاء عند دائرة الضوء، بآراء إشكالية ليس لها أي سند معرفيّ.

ملايين وقعوا في المصيدة الواهمة نفسها، بطُعم الاستدراج إلى لذّة المشاركة في الحدث، مع إطلاق لعبة “Pokémon Go”، حيث اللامعقول صار مقبولاً في الحدائق والبيوت والتقاطعات، والوهم بات عنواناً لتغريدات مقتضبة وتعليقات طوال.

أمة العرب في مقدمة من فضحهم التجوال الجغرافي في اللعبة، كلام عن “فتاوى تحريم” “وانتهاك خصوصية” و”نظريات مؤامرة”، كلّها سيقت إلى الواجهة، وافتقدنا تماماً مراجعة موقع الناطقين بالعربيّة في جداول التضادّ بين أهل الإنتاج ومن يعاكسهم في الاستهلاك.

أمام خَبل التسطيح العام، تحتاج إلى أن تتلبّس التمرّد، برغم أنّك لا تتمنّى -مرّات ومرّات- أن تكون خارجاً عن مدركات الجموع وأهوائها؛ لرغبة في أن تتقمّص روحية شخص آخر، غيرك طبعاً، يتعايش مع الخَدر المريح ويستطيع أن يمضغ الخسارة برحابة صدر، من دون أن ترميه أمواج الحسرات على مشارف الغياب الأخير.