دخان قطار!

811

نرمين المفتي/

حين كانت القطارات تعمل على الفحم، كان دخانها يتحرك نحو الخلف بينما هي تتقدم. تذكرت ذلك الدخان الذي طالما جعلني أسرح في خيالي وأنا أشاهد أفلام الغرب الأمريكي حين قرأت مندهشة خبرين مصورين في يوم واحد قبل أيام. الأول عن وصول أول قطار شحن من الصين الى لندن والثاني عن تلاميذ في الناصرية يؤدون امتحانات نصف السنة جالسين على الأرض!! قطع ذلك القطار 12 ألف كلم مروراً بدول عدة، وأخذني دخان قطار مرسوما بذاكرتي الى (قطار اكسبريس) الذي بدأ أولى رحلاته من البصرة (المعقل) الى لندن في تشرين الثاني 1936 وكان جزءا من قطار الشرق السريع وأتذكر واحداً من أفخم مطاعم بغداد قبل الحصار كان اسمه (قطار الشرق السريع) وكان ديكوره يشبه ذلك القطار من خلال صور عرباته المعلقة على الجدران.. من تلك الفخامة الى تلاميذ يجلسون في صفوفهم على الأرض ليتعلموا ويدرسوا، وإن كان أحدهم قام بالتقاط صورة تلاميذ الناصرية وهم يؤدون الامتحانات بظهور محنية، جالسين على الأرض ويحتضنون الدفاتر، فإن الحالة موجودة في كل المحافظات.

كما نسينا تلك الفخامة والعمل الدؤوب على خلق مجتمع يتعرف الى الجمال خطوة بخطوة، لا أقصد السفر بقطار الشرق السريع، انما العروض الموسيقية المجانية في الشوارع المتاحة للجميع، المتنزهات، السينمات، المسارح ومدارس حكومية بملاعب وحدائق ومكتبات وقاعات للموسيقى وأخرى للرسم، نسينا أن أمراً بهدم الآف المدارس صدر ونفذ ليتم بناء مدارس حديثة ومتطورة في محلها!! ولكن تلك المدارس أصبحت اثراً بعد عين وفي أفضل الأحوال، تم حفر الأساس وترك كمية من الحديد ومواد البناء في الموقع.. نسينا أن نحاسب صاحب ذلك الأمر أو نسأله في أضعف الايمان: أين المدارس؟ من سيرسل صورة الناصرية الى مجلس النواب ومن سيقوم بزيارة الى المحافظات، إذ في كل واحدة منها مدارس هدمت وتركت وتلاميذ يتكدسون في صف واحد في بناية تضم ثلاث مدارس وتلاميذ يفترشون أرضيات الصفوف، قد يفعلها بعضهم قبيل الانتحابات.. المسافة من البصرة الى لندن لا تقاس بالكيلومترات، انما بزمن كانت فيه بناية المحطة العالمية في بغداد واحدة من أجمل المباني في العالم، الى تلاميذ يفترشون الأرض، مسافة نقيسها بالزمن. متى نتجرأ ونطالب بقطار عمل حقيقي يتقدم وليس دخانا يعود الى الخلف ويسحبنا معه؟ ليس دخان فيلم كنا نراه عن الغرب الأمريكي، انما دخان حقيقي يدخل في كل تفاصيل الحياة.