درعٌ شيوعي!!

933

حسن العاني /

ما بين النصف الاول من ستينات القرن الماضي، وحتى احتلال العراق في أوائل الألفية الثالثة، فاصلة تمتد الى أربعة عقود، كنت في أثنائها قلماً عاش العملية الصحفية بعمق، وعاصر مرحلة التكريمات الصدّامية السخية، وما زلت مندهشاً لأن صدام حسين لم يغفل إعلامياً واحداً، حتى الذي لا يحسن كتابة اسمه، إلا وشمله بالتكريم، ابتداء من (مثقالي) ذهب، عيار (18) صعوداً الى كيلوين عيار (21)، ومعظم تلك التكريمات (المالية خاصة) لا تعتمد على كفاءة الإعلامي، وإنما على نسبةِ النفاق في قلمه وكريّات دمه!!

غريب أمر (الريس)، فأنا الاعلامي الوحيد الذي لم يتم تكريمه ولو بمثقال ذهب عيار (14)، مع إنني أحسن كتابة اسمي، والأغرب إنه أصدر فرماناً في عام 1999 يقضي بمنعي عن الكتابة مدى العمر. ولكن انصافاً للحقيقة أعترف بأن فخامته كرّمني مرّة واحدة بمبلغ (250) ألف دينار، وأرجو أن لا يتهمني أحد بالتضليل، فهناك مفارقتان، الأولى: أن تكريمي جاء في عام (2001) أي وأنا ممنوع من الكتابة، والثانية: أن الموضوع المنشور كان باسم صديقي الرائع (جواد الحطاب) وليس باسمي الممنوع من الظهور!!

بعد خسارة الإعلاميين للرجل الذي ينثر (أموال الخزينة) بدون حساب، دخل العراق مرحلةً جديدة من التكريمات لها وجهان، أولهما: أن الدرع أصبح هو البديل عن الذهب أو الشقة السكنية أو المركبة أو المال أو المنصب الوظيفي. والدرع كما هو معروف لا يمتلك أية ميزة اقتصادية، ولا يمثل قوة شرائية، لأنه بدعة رمزية معنوية ظريفة، يمكن أن نزيّن به غرفة الضيوف لأغراض التباهي وإبراز العضلات، وهو كما وصفه أحد أصدقائي الخبثاء أشبه بكتاب الشكر أيام زمان، ولكنه بالتأكيد أفضل من كتاب العقوبة!!

بتاريخ 9/11/2018 تم تكريمي بدرع وضعته الى جانب الصف الطويل من دروعي القديمة، وهو ليس أحلى منها ولا أفضل بالضرورة، ولكنه ارتبط بجملة اعتبارات، في مقدمتها أنه جاء ضمن [مهرجان (طريق الشعب) السادس]، وقد اختار المشرفون على المهرجان، جزاهم الله خيراً، حسن العاني ليحظى بجائزة (شمران الياسري للعمود الصحفي)، وواضح من سياق كلامي، أن الجائزة درع أنيق!

وأنا أحتمي برفيق عمري خضير الحميري (طوال جلوسنا بين جماهير المهرجان الغفيرة كان يخاطبني وأخاطبه بمفردة رفيق) لكي أسأله كيف أتصرف إزاء أي أتيكيت من أتيكات المهرجانات التي لا أحضرها أبداً بسبب القليل من انطوائيتي والكثير من بداوتي التي مازلت أعتزُ بها وأتمسك، فوجئت بأن ابن الأجاويد –المدعو عبد الزهرة زكي، الذي تخطى مفردات المدائح الشعرية على مرّ التاريخ العربي، فأسميته قبل اليوم (الكبير) صفةً تليق به موقفاً وإبداعاً وإنسانية- يجبرني على البكاء، مع أن الحزن العراقي ما أبقى في العين متسعاً لدمعة جديدة.. زكي يكرر اسمي في كلمة الاحتفاء بي، والتي تُليت نيابة عنه لتعذر حضوره أمام ظرف طارئ، (18 مرة)، وكأنه يود تكريسه أو فرضه على الجمهور من باب التحبيب به أو التعريف.. زكي يرتضي لنفسه وأنا لا أرتضي له أن يكون قارئاً ليهبني موقع الكاتب.. زكي يدفعني الى الضوء ليقف هو في الظل، زكي..زكي.. وكأنني أحاول تقليده وأكرر اسمه هيبة واحتراماً. كلمة زكي التي أنعشت روحي بنقاوتها في زمن الغش والضلالة كانت موشومة بالدلالات الاخلاقية.. وحين نودي على اسمي لتسلم الدرع من الأستاذ رائد فهمي، كنت مسكوناً ببضعة أفكار أودُّ قولها على المنصة: أن أشكر استاذي عبد الزهرة، وأشكر أصدقائي الشيوعيين وفي مقدمتهم (مفيد الجزائري وإبراهيم الخياط) وأستفسر منهم عن سبب اختيار رجل مثلي لا يميز بين دكتاتورية البروليتاريا ويين ودكتاتورية مزبان خضر هادي، وكنت أتمنى لو طلب مني الرفيق فهمي أن أنتمي الى الحزب الشيوعي فأعتذر منه قائلاً [ذلك يسعدني ولكنني كما تعلم عضو عامل في حزب العمال البريطاني]، غير أنني ما إن وصلت الى المنصة، ووجدت نفسي بعيداً، ووحيداً من دون الحميري، وفي مواجهة خلق عظيم، وأمام شيخ الطريقة الشيوعية رائد فهمي، حتى ارتبك البدوي في أعماقي فنسيتُ أفكاري وأمنياتي، ولم تبق سوى دعوات حالمة صامتة مكبوتة في الصدر لعراق العراقيين، ووطن الحب والمحبة..