ذكريات حسينية!
#خليك_بالبيت
حسن العاني /
من فضائل الديمقراطية التي استوردناها، وعززنا بها مفردات البطاقة التموينية، انها منحت كل واحد منا كمية من حرية الرأي والتعبير والمعتقد والتصرف اكثر من حاجته الفعلية أربعين مرة، ومن هنا فأنا وانت ونحن جميعاً اصبحنا نغرد خارج السرب بعد ان فقد السرب تماسكه ووحدته، وتحول الى كيانات مستقلة لايجمعها جامع..
وهل أنا الا أبن هذه الديمقراطية ووريث حريتها، أُفكر كما اريد واتصرف بمزاجي ولا أرى الحق والباطل إلا على وفق رؤيتي حتى لو اتفقت معاشر الإنس والجن على خلاف ذلك، ومن هنا فان قناعتي تقول لا اعظم ولا اجمل ولا انفع من مدارسنا الابتدائية قبل ستين من السنين ويزيد، وآية ذلك كما تخبرني الذاكرة ان التلامذة كانوا يمضون الوقت الأكبر من نهارهم في (حرم) المدرسة وتحت اشراف معلميها، بعيداً عن ازقة الاحياء الشعبية ولغاويها، ذلك لان هناك دواماً صباحياً يتضمن أربعة دروس رئيسة من دروس المنهج كالحساب واللغة العربية واللغة الإنجليزية والتاريخ والعلوم والجغرافية..الخ، وبعدها يعودون الى بيوتهم لمدة ساعتين طلباً للراحة وتناول الغداء، ثم يعودون مجدداً الى الدوام بواقع حصتين فقط من الحصص (الخفيفة) كالرسم والاعمال اليدوية والتربية الوطنية والحياتية.. الخ، اما ليلهم فسهرة لاتتجاوز العاشرة ابداً، يقضونها في (تحضير) الواجبات المدرسية لليوم الثاني، واذا سمح الوقت فحكاية طريفة من حكايا العجائز بعد ان جنبتهم طبيعة المرحلة بلاوي التلفزيون والانترنيت والموبايل وبرشلونة وعجائب اللابتوب وغرائب الايباد!
كنا بسرعة البرق نتناول غداءنا لكي نعود الى المدرسة بعد نصف ساعة على مغادرتها، والمدرسة التي اعنيها هي (الكرخ الابتدائية للبنين) التي ابتلعها التطور العمراني، وحيث تعلق الامر بي، فأنا اتحدث عن السنة الدراسية 1955/1956 والصف السادس الابتدائي، وما يحثنا على استعجال طعامنا حتى قبل ان نمضغ اللقمة جيداً، هو لعب كرة القدم في الساحة الترابية الواسعة، المجاورة لبناية المدرسة، ولكن ما كان يستهوينا اكثر، هو اداء مسرحيات مرتجلة ليس فيها معد ولاسينارست ولامخرج ولا اضاءة الا ضوء الشمس!! ما كان يجري تحديداً: مشاهد عفوية إبنة ساعتها، وكانت واحدة من اهم معارك التاريخ العظمى التي استشهد فيها الامام الحسين (ع)، هي اكثر مايستهوينا، فنؤديها باستمرار…
في رؤيتنا العذرية كان الحسين- وهو كذلك– انساناً أُممياً، عشقت فيه الشعوب -بغض النظر عن معتقداتها الدينية والمذهبية- التمسك بالمبادئ السامية والدفاع عنها برغم سلطان السيف والظلم والموت.. وهي ليست مفارقة ان يؤدي تلميذ اسمه حسن العاني، سني المذهب بالولادة، دور الحسين، والى جانبه صبي اخر اسمه صباح سلمان يؤدي دور اخيه العباس (ع)، ولم اعرف ان (اخي) هو الاخر سني الا بعد 2003، ومقابل هذين الاخوين يصطف فريق من عشرين تلميذاً من شتى الاديان والمذاهب والقوميات… انه المشهد المسرحي الذي جعل تلك الكثرة من خندق يزيد!!
ذات ظهيرة احتدم القتال، وما حيلة اثنين مقابل عشرين (خلت قلوبهم من الرحمة) الا ان يخرجا بكدمات وخدوش وملابس ممزقة، وبتلك الحال عدت الى البيت… جن جنون امي وهي شيعية ميسانية، وانا اروي ماحدث منتشياً، وكان ابي– وهو سني من اعالي الفرات– غارقاً في الضحك، وتغلبت عاطفة الامومة، وهددتني وجسدها يرتعد هلعاً بانها (ستذبحني) لو قمت بهذا الدور ثانية، وطلبت مني ان اكون من اتباع يزيد، لان قمصانهم لاتتمزق ولايتعرضون الى الاذى… ما دامت العملية مجرد تمثيل!
فجأة توقف والدي عن الضحك، وعلا الغضب وجهه وخاطب امي “لو عاد ابني الى البيت وهو ينزف دماً، اشرف لي من ان يكون قاتل سبط النبي..حذار ان تعلمي الولد على النذالة”، لم افهم غضبه ولم استوعب كلماته الا بعد اشتعال العمر شيباً… حيث ادركت معنى ان يكون الانسان قريباً من الحسين…