رقم هاتف صديقٍ متوفى

25

عبد المنعم الأعسم /

يحتفظ الكثيرون بأرقام أحبة من الأهل والأصدقاء والمعارف غادروا الحياة، ويمرون بتلك الأرقام التي تسكن محفوظاتهم ودفاترهم على مدار الوقت، لا بوصفها أرقاماً، بل وجوه تفيض بالحياة، وتعيد إلى الذاكرة خواطر وشراكات ومفارقات. ودخلت هذه المشكلة في استبيانات ومناقشات، واتجهت إلى السؤال التفصيلي عما إذا يحق لوريث أو قريب المتوفى أن يفتح مخزون هاتفه من المراسلات والأسرار الخاصة، إذ شددت قوانين الكثير من الدول على حرمة خصوصيات المتوفى، ورفعت هذه الخصوصيات من مفردات ميراثه.
والحال، فإن أرقام هواتف الراحلين تبقى في قصاصات أحبتهم، وقد يجد بعضهم نفسه في حيرة ما إذا يمسح الرقم أم يبقيه.
النجم الأرجنتيني السابق دييغو مارادونا زار قبر صديقه الرئيس الفنزويلي الراحل “هوغو تشافيز”، وفي ختام الزيارة سأله الصحفيون ما إذا سيستمر بزيارة القبر فقال: “نعم، لا مفر، كنت حين أشتاق إليه أتصل به عبر الهاتف، فنتكلم. الآن عندي رقم هاتفه، أتصل به، لكن لا يشتغل.”
وعلى ذكر الأرجنتين، فإنها أحيت مؤخراً ذكرى شاعرها الكبير خوليو كورتوثار (1914 – 1984)، الذي عثر عليه مراراً وهو يتصل برقم هاتف منزله السابق، لعل زوجته الراحلة أورورا بيرناندس ترد عليه، ويذكر أن بيرناندس، التي كانت هي الأخرى شاعرة، قد انتحرت في استسلام للكآبة الطاغية عام 1972، وهزت وجدان الأرجنتين برحيلها الفاجع ذاك.
وفي الآونة الأخيرة، تمكن مشاركون في برنامج تلفزيوني من التحدث في دردشة على الآلي الخاص بالممثلة الشهيرة مارلين مونرو، وكان التلفون يرد وتظهر مارلين على الشاشة، عبر عرض للذكاء الاصطناعي في مهرجان بولاية تكساس الأميركية. أما إليوت كينج، مؤرخ أعمال وحياة أبي السريالية سلفادور دالي، فقد كشف أن الاتصالات (بوسائل الذكاء الاصطناعي) مستمرة مع دالي بواسطة رقم هاتفه القديم على تلفونه الخاص المسمى “جراد البحر”. وقال إنه يعتقد أن الفنان الراحل قد يستمتع بمعرفة أن صوته سيعيش من خلال هذا الهاتف، وأضاف “لقد كان دالي مهتمًا جدًا بالتقدم العلمي.”
وشاء امتحان الحياة أن أفقد، في غضون أسابيع، أصدقاء ملأوا المكان بالضوء وإبداعات الصداقة الحميمة. أتحدث عن الفنان الرائد عبد الوهاب الدايني، الذي ولدنا، هو وأنا، على بُعد (دربونتين)، وألقت بنا الحياة في المشاغل والقارات، ثم جمعتنا في مكان، كان الدايني سيّده: المسرح. ومنذ أيام نعت الأخبار، فجأة، صديقاً عشق الحياة وأحبّ أنساقها ومراميها، وقد خضناها صبياناً، وتفرقنا في وعوراتِ الأزمنة النذلة، وتخابرنا كثيراً، لنلتقي، الدكتور شاكر المعموري، وأنا، في محطة كنا نحلم بها، ولم تكتمل. ثم رحل قبل أيام صديقي الدكتور شاكر القيسي، الذي تمر في هذا الشهر، شباط، الذكرى الستين للقائنا، أول مرة، باستراحة في صحراء كنّا نقطعها، وإذْ أدرتُ رقم هاتفه قبل أيام فقد جاءني الصوت: صديقك توفي. أما علاء حسن، صديقي الصحفي الذي أفجعني رحيله، منذ اسبوعين، فقد هتف في داخلي صوته صافياً وأنا أتلقى الخبر، ووجدت نفسي أتمتم: “من لي بعدك يداهرني علاء. لن أمحو رقم هاتفك من حافظتي.”
أرقام هواتفكم أيها الأحبة في مكانها.. لو تعلمون.