سيرة ذاتية!

832

حسن العاني/

لأسباب يطول الشرح فيها، اضطرت أسرتي الى الهجرة المبكرة التي سبقت معرفة العراقيين المتأخرة للتهجير، وهكذا غادرنا بغداد الى الفلوجة، والتحقت طالباً “الثالث متوسط”، في ثانويتها الوحيدة.. كان ذلك في عام 1959، وعمري يومها (14) سنة، ولابد أن أستذكر بحزن ذلك الاحساس بالغربة المكانية، فقد وجدت نفسي بين ليلة وضحاها مقطوعاً من شجرة، لا أصدقاء ولا معارف ولا علاقة بأهل الطرف والشارع ومعالم المدينة، غير أن زملائي الطلاب عوضوني عن ذلك، فقد احتفوا بي وأكرموا وفادتي البغدادية، حتى أنسوني متاعب الغربة، فمن رفقة الى المقهى الى استضافة في بيوتهم على دعوة غداء أو عشاء، وبالغوا في التكريم بحيث أهداني أحدهم كتاباً اسمه “في سبيل البعث”، وتبرع الآخر بمظروف يحتوي على “منشور بعثي”، ثم تصاعدت الرعاية الرفاقية حتى طالبوني ذات يوم بدفع “تبرع شهري” اعتذرت عن دفعه، فأنا –قلت لهم- سليل عائلة تعيش على الصدقات وفطرة العيد، وتم قبول اعتذاري على مضض، وقد ظل موقفي المشين نقطة سوداء في مسيرتي النضالية!!

في العام الدراسي 1960/1961 عدت الى مرابع طفولتي البغدادية وحدث انقلاب 18 تشرين الثاني 1963، ولم أعد أتسلم منشورات، ولم يعد أحد يعيّرني بالنقص الحاد في روحي النضالية، وكنت يومها قد بلغت الثامنة عشرة من العمر، ولو كنت مراهقاً ذكياً لاستثمرت هذه المرحلة الشبابية –التي لا تأتي غير مرة واحدة- وأقمت شبكة عظيمة من العلاقات الغرامية مع بنات الطرف والعشيرة، وبنات الثانوية المجاورة لبيتنا، ولكنني أوليت اهتمامي الساذج لعالم الثقافة والأفكار السياسية، ولهذا قرأت “الإخوان المسلمين”، وتعرفت على حسن البنّا وسيد قطب والصواب، ولازمت مسجد المحلة ولم أنقطع عن صلاة فجر أو صيام تموز، ثم انتقلت الى الصوفية والبهلول والكرخي والحلاج وجنيد البغدادي (لا علاقة له بأبي بكر البغدادي)، فسحرتني طقوسها، وأطلقت لحيتي ومزقت قميصي وطلّقت الدنيا ثلاثاً، وحرمت نفسي من الطعام والشراب والنسوان، وكدت أصبح قطباً من أقطابها، لولا ان كتاباً في “الوجودية” وقع بين يدي، فأغراني وقادني الى كتاب ثانٍ وثالث وسارتر وكامو والحرية، فحلقتُ لحيتي ورتقت ثيابي واستعدت عافيتي وأنشأت أول مؤسسة خيرية للعواطف الرومانسية، وهممت أن أفتتح معهداً مجانياً لتعليم هذه الفلسفة، لولا أن أحد الأصدقاء طلب مساعدتي وأخفى عندي كتاباً لماركس، مخافة عثور السلطة عليه، ولم أسأل نفسي يومها: لماذا فكّر ذلك الصديق بأن بيتي مثل بيت أبي سفيان؟ ولم يمضِ أسبوع واحد حتى أصبح منزلي وكراً حزبياً أو مأوى لرأس المال ولينين وإنجلز وحسين الرحال ويوسف سلمان، وتعرفت عبر ضيوفي المطلوبين للسلطة على الجدل والديالكتيك والأمميات وفائض القيمة والبروليتاريا الرثة والتراكمات الكمية التي تؤدي الى تغييرات كيفية. ولأن اولئك الرفاق المطاردين وأفكارهم ونظرياتهم، كانوا أقوى من حصانتي الهشة، فقد سيطروا على عقلي وسلوكي، ولهذا تمردت على سارتر، ورحت أرتدي ربطة حمراء وحذاء أحمر، وأنظر الى الدنيا بعين حمراء، خاصة وأنني لم أعشق أحداً من المطاردين مثل عشقي للرفيق ستالين..

كان اعتراضي الوحيد على تلك الأفكار الحمر هو أنها تلغي الحكومة والجيش والشرطة و الحرس الجمهوري وفيلق القدس والسافاك والحرس القومي والمارينز وحلف الناتو وحلف وارشو والصحوة والحمايات.. عند قيام النظام الشيوعي الأممي، أما البديل فهو وعي الجماهير وقوة البروليتاريا وضمير العالم الجماعي.. (يومها شعرت بالحزن لأن الأفكار الحمر التي آمنت بها شملت “المجندات الأميركيات” بالإلغاء والاجتثاث كذلك)، على أية حال واجهت وضعاً فكرياً صعباً ومعقداً في عام (2003)، بعد ثورة التاسع من نيسان المجيدة، فأنا لا أدري ماذا أقرأ، وأي حزب أؤيد، وقد أحاطت بي من الجهات الأربع تنظيمات دينية وطائفية وإرهابية ويسارية ويمينية وليبرالية وعلمانية وقومية ووطنية وعميلة، حتى أصبح رفاقي القدامى وأفكارهم الحمر نقطة في بحر من الأحزاب والأفكار والتيارات والصحف الصفراء والأصابع البنفسجية..

لعل أصعب ما واجهته بعد (2003) هو بقاء العراق من غير حكومة بضعة أشهر. وهنا أود الاعتراف بأن اعتراضي على الأفكار الحمر لم يكن في محله، حيث اكتشفت مدى سعادة أي شعب من شعوب الأرض من دون حكومة تقوده وتراقبه وتحاسبه وتحكم عليه بالسجن وتسومه العذاب، لأنه قادر على تدبّرِ أمره والتمتع بحريته كاملة، ينام ويضحك ويهلوس ويبكي على هواه، ولا يضطر الى أن يحوسم ويقتل ويخطف في السر، بل تحت سمع ونظر أصدقائنا الحلفاء بلا حساب ولا عقاب لكونهم ليسوا حكومة شرعية ولا دائمية ولا حكومة طوارئ، أو شراكة أو تصريف أعمال.. يا إلهي كم كان العراقيون سعداء من غير سلطة تنفيذية. ثم اكتشفت ماهو أهم، فقد تبيّن لي أن (بوش الابن) شيوعي وابن بار للشيوعية، ولكنه تعجل في تطبيق النظام الشيوعي الأممي قبل أن تتوفر شروطه الموضوعية، بدليل أنه ألغى الحكومة ومؤسسات الدولة والقوات الأمنية، وقد فاته أننا مازلنا نعاني من ضعف حاد في الوعي وقوة البروليتاريا والضمير الجماعي!!