شرف المحاولة

986

نرمين المفتي  /

الحاجة أمُّ الاختراع، مقولة يستمر مفعولها مهما كانت قديمة.. في زاوية السوق الصغير الذي يوفّر لسكان الحي السكني كل ما يحتاجونه، جذبني صوت موسيقى يختلف عن السائد العالي والمزعج غالباً، أنظر حولي واتوجّه إلى مصدره الذي كان (عربة) لبيع (اللبلبي)، نظيفة جدَّاً وحولها ثلاثة كراسٍ خشبية صغيرة ومنضدة حديدية صغيرة أيضاً؛ عليها (سندانة) ورد موسمي. صاحبا العربة صبيّان لا يتجاوز عمرهما الثامنة عشرة. أجلس ويقول أحدهما: “لدينا كل أنواع اللبلبي”، ابتسم وأسأله “ليش اللبلبي صار أنواع؟” ويجيب: “من زمان، لبلبي بالفلفل الأسود ولبلبي بالحامض ولبلبي بلا أي شيء ولبلبي بماعون زغير ولبلبي بماعون كبير” واطلب نوعاً من اللبلبي لم يذكره (سفري)، ويضحكان. يقترب منهما رجل يبدو في الخمسين ويسألهما عن وضعهما في الامتحانات. واكتشف أن الصبيّين يؤديان الامتحانات التمهيدية التي ستؤهلهما للنهائية الخارجية للثالث المتوسط.. محمد وطيف، صديقان، أرغمتهما الظروف على ترك الدراسة، يساعد كلّ منهما والده، يعملان بالأجور اليومية وهما سعيدان بعربتهما التي توصلا إلى فكرتها بعد أن حاولا العمل في مقهى ومطعم وفي التنظيف، يقول محمد إنَّ سبب إقبال الناس على عربتهما النظافة والمعاملة الطيبة والموسيقى الهادئة ويضيف طيف و(الوردة). محمد وطيف يعزفان الكمان وقررا الالتحاق بمعهد الفنون الجميلة لدراسة الموسيقى وكانا نشطين في ساحة التحرير وبفخر يقولان إنَّهما شاركا بعزف النشيد الوطني حين كان يردّده الشباب. لمحمد وطيف أحلام كثيرة ولا يلتفتان إلى الوعود الكاذبة، مناقشاتهما والكلمات التي يستخدمانها تؤكد أنَّهما كبرا ونضجا قبل الأوان ومثلهما مثل مئات الآلاف من الأطفال العراقيين الذين كبروا قبل الأوان ويعرفون الأسباب التي حالت دونهم والتمتع بسنوات الطفولة والمراهقة، وبينهم أيضاً مثل محمد وطيف، دفعتهما الحاجة إلى الاختراع أو الابتكار، لم يعرفوا اليأس بل عدّوه نقطة انطلاق مهما كانت بسيطة، غير آبهين بالوعود الكاذبة..
ويفاجئني طيف قائلا: “خالة قرّرنا برمضان تخفيض الأسعار”، سيبيعان (سفري) قبل الإفطار والصحون الكبيرة فقط بسعر الصغيرة ويعطون لكل مشترٍ (خمس صمونات حجرية) مجاناً، ويضيف محمد: “خالة اكو عوائل كلش فقيرة”، عوائل لا تتمكّن حتى من شراء مواد غذائية بسيطة وأعرف منهما أن صاحب المخبز القريب منهما قرّر أن يوفر لهما يومياً ٢٠٠ صمونة مجاناً أيضاً.
قصّة حياة حلوة، عراقية جدّاً، اتمنى أن يبادر أصحاب الأسواق الكبيرة كما قرّر محمد وطيف وصاحب المخبز، مهما كانت الظروف صعبة والأكاذيب كثيرة، نستطيع أن نمنح طعماً لأيامنا بأفعال صغيرة.. لنتوقف للحظة ونقرّر أن لا ننظر إلى الخلف.. لا اتحدث متوهمة أو متخيلة ولا أريد أن أبدو ناصحة، أبداً، لنحاول، وإن فشلنا، فلنا شرف المحاولة.