صديقي رجل الأمن!
عامر بدر حسون /
في أوائل السبعينات، وما إن نزلت ليلاً من السيارة التي نقلتني من بغداد الى المحمودية، حتى داهمني رجلان واقتاداني الى دربونة صغيرة ومغلقة.. وبدآ بتفتيش جيوبي وأوراقي وأنا ملتصق بالحائط بناء على أمرهما!
كان الأول ضابط أمن قادم للوظيفة من ريف المحمودية، والثاني ابن مدينتي وصديق طفولتي وشبابي الأول وجاري في السكن حتى من قبل ولادتنا.. وكانت هي المرة الأولى التي أعرف فيها أنه أصبح رجل أمن!
وعندما انتهيا من تفتيشي طلبا مني أن أرتدي حذائي وجواربي، فقد تم تفتيشهما أيضاً.. وأن أتقبل الأمر على أنه اشتباه او إخبارية كاذبة.. وهكذا انتهى المشهد، وهو كان مألوفاً في أيامنا تلك.
لكنني بقيت أتذكر أن صديقي لم ينظر في عينيّ أبداً، وكان من الواضح أنه أرغِم على القيام بعمله معي لاختبار إخلاصه وتخلّيه عن ماضي الجيرة والصداقات من أجل الحزب والثورة!
لم أنم ليلتها، فقد كنت أفكر فيه وبوظيفته الجديدة التي عرفتها بطريقة صادمة وقاسية. والحقيقة هي أنني فكرت بالآلام التي عاشها وهو يرغم على القيام بتلك المهمة.
لم ألتق به بعد ذلك فقد كنت أتجنبه كي لا أكلفه مشقّة الاعتذار بالأوامر، وأيضاً لأنني أصبحت مقيماً في بغداد وأزور أهلي وأصدقائي في عطلة نهاية الأسبوع.
***
بعد سقوط النظام بعام او عامين، جاءني اتصال هاتفي منه، وقال إنه في دمشق مع عائلته ويريد أن يراني، وهجمت عليّ صورة صديقي في الطفولة والمراهقة، وليست صورة رجل الأمن الذي فتشني، فرحبت به بفرح، ودعوته لأكثر من مرة، ولم أخبر زوجتي وابنتيّ بقصتي معه كي لا يبدو عليهن التحسس من رجل آذاني (أخبرتهم فيما بعد). وعلى هذا كانت اللقاءات حميمة كما يحصل مع أصدقاء الطفولة، وبقي يزورني كل عام.
وفي كل مرة كان يلح علي في اختيار الهدية التي يأتيني بها من العراق، إلى أن وافقت مرة وطلبت منه كاسيتات تنتمي لمرحلة طفولتنا وشبابنا المشترك، وأذكر منها كاسيت لمنقبة نبوية كانت شائعة في زمننا بصوت المقرئ عبد الستار الطيار… وما زال عندي!
***
كنت أشعر، كلما عاد للعراق، أن شيئاً ما مسكوتاً عنه لم أعرف كيف أتحدث فيه لأحرره منه، وهو موضوع إيقافي وتفتيشي الذي لم نتحدث فيه أبداً. كنت أعوّل على أن اللقاءات والأحاديث هي التي تنوب عن الكلام المباشر في الشرح من جهته وفي المسامحة من جهتي.
وذات عام قررت أن أفاتحه بالموضوع عندما يأتي كي أقول له أن مافات فات وانتهى وأنني أسامحه.. لكنه لم يأت في ذلك العام، فقد اتصل بي أهلي واخبروني أنه مات!
كان دائم الزيارة لوالدتي وعائلتي باعتبارنا جيران عمر، وقد حزنوا عليه كثيراً، وأنا أيضاً حزنت لأنني لم أتحدث معه في الموضوع كي أريحه من عبء الإحساس بالذنب، فلعلّه لم يجد في ترحابي الطيب به وبعائلته ما يفهم منه أن المسامحة تمت.
الحقيقة أنني سامحته، لكنني شعرت أن تذكيره بالقضية ربما ينطوي على إذلال له ولو مؤقتاً، ولو أنه تحدث معي بالموضوع لكان الأمر أسهل عليّ وعليه.. لكنه مات قبل أن نحسم أمرنا، رحمك الله يا صديقي في محنتك الصامتة.. وسامحني إن كنتُ جزءاً من معاناتك.. ولو كضحية!