عاصمة طابق واحد!

642

د. حسن عبد راضي /

عندما تسافر في مدائن الله، يظل وطنك والمدينة التي استقبلتْ صرختك الأولى يرافقانك أنّى حللت، فتجد نفسك وقد أصبحت عيناك كاميرتين ترصدان كل شاردة وواردة من زغب شوارع تلك المدن، حتى جدائلها المتناثرة على ساحل البحر، وخضرة الظلال فوق أجفانها الناعسة، مقارناً إياها بمدينتك، باحثاً عن العزاء أو الأمل أو السلوى.
بعض المدن، لا سيما الأوروبية أو تلك التي مرَّ الأوروبيون بها واستعمروها طويلاً، لا تعطيك خرائطها بسهولة، حتى لو أقمت فيها طويلاً، ستجدها مدناً مركّبة من طبقات، مثلما تاريخ عمرانها وثقافتها يتألف من طبقات، وبينما تجد الحياة ضاجّة صاخبة ملأى بالشمس والهواء والأماكن الوادعة المدهشة على السطح، ثمة طبقات أخرى لا تكون في مدى نظرك في الآن نفسه، ضاجّة وصاخبة وتتقاطع فيها الحياة، تلتقي وتفترق، وقد يكون ذلك تحت الأرض في تلك المسالك الدودية التي لم تخطر في بال أعظم مستعمرات النمل.
على عمق عشرين متراً أو ثلاثين أو مائة، محطات “تعطُّ” فيها روائح النساء القاصدات أعمالهن أو الذاهبات للقاء عشاقهن، مع روائح محلات الورود التي تكثر غالباً في محطات مترو الأنفاق، ولا تكاد تشم رائحة زيت المحركات التي تُزكمك حين تُقبل على أي كراج سيارات، أو محطة قطار أثرية عندنا، ولن تقرأ العبارة التاريخية: “البـ…. هنا للحمير” التي تنتشر كأي حكمة مشرقية على جدران كثيرة في مهاجعنا المسمّاة “مدناً” مجازاً.
المدن هناك تتضاعف بالرغم من أن مساحاتها شبه ثابتة، الفائض يأتي من طبقاتها المتراكبة. محطة القطار المركزية في برلين مثلاً هي أبرز مثال لذلك التعدد المتكاثر، إذ تدخلها قطارات المترو التي تسير تحت الأرض وتلك التي تسير فوق الأرض، وتدخلها القطارات الدولية السريعة من جهات شتى، كل ذلك في مبنى عملاق يشبه الجبل الجليدي، فالجزء الظاهر منه، وهو بارتفاع ست طبقات أو أكثر، أصغر بكثير من الجزء الذي تحت الأرض، ولا يكاد المرء يدرك بعينه المحدودة أين يبدأ ذلك المكان وأين ينتهي، لفرط تشعبه وكثرة مساربه.
ويمكن القول إن أكثر من 90% من مباني المدينة هناك تتألف من خمس طبقات فضلاً عن الطبقة الأرضية، ومعنى ذلك أن لديك مدينة مضاعفة ست مرات من حيث قدرتها على استيعاب السكان وإيوائهم.
ولو عدنا إلى كوكبنا العراقي العتيد، فقد قيل قديماً لمن يبالغ في الترف والرفاهية أنه “يتبغدد”، وبغدادنا الجميلة، بغداد العصرية التي نمت وترعرعت في أحضان التمدن، وشاد معماريوها المعاصرون وفنانوها الرواد مبانيها وساحاتها لتكون جوهرة المدائن قبل أن يخرّبها الرعاع بحروبهم ونزعاتهم الغجرية، هُجرت منذ عقود من السنوات، وللقارئ أن يستوثق من كلامي بزيارة شوارعها الرئيسة، فكل العمارات المؤلفة من طبقات، كعمارة الضمان ومبنى شركة التأمين على الحياة وكل عمارات شارع الخلفاء وصولاً إلى ساحة التحرير – ما عدا السكنية طبعاً- مهجورة تماماً، أو أن المشغول منها هو الطابق الأرضي فقط، بمحلات أو مخازن تنثر أحشاءها من دون عناية أو نظافة في وجه أي لائحة حضارية مدنية، وتقول لك إن بغداد ليست مدينة الآن، بل هي قرية كبيرة من طابق واحد، ويمكنك أن ترى قطعان الغنم أو الماعز “ترعى” في أرقى شوارعها وأحيائها، وقد لا تجد فيها ما يثبت انتماءها للمدن العصرية، اللهم إلا تلك الآثار الغاربة من بقايا عهدها الملكي وجمهوريتها الأولى.