عبد الحليم… صوتُ الثورة أم صوتُ الشعب؟
عبد الله صخي /
في الجزء الأول من مذكراته “سنين الحب والسجن” يروي الكاتب عبد الله الطوخي قائلاً إنه كان يشاطر الشاعر والمخرج عبد الرحمن الخميسي زنزانة في أحد سجون مصر. كانا يشعران بخيبة أمل مريرة، فثورة 23 يوليو/تموز 1952 التي ناضلا من أجلها أصدرت قراراً باعتقالهما. يقول الطوخي: ذات نهار ونحن في تلك الحالة من الأسى تناهى إلينا صوت بعيد يشدو بأغنية “على قد الشوق اللي فعيوني”.
التفت إلى الخميسي وقلت له: هل تسمع؟ هذا الصوت سيكون له شأن كبير. كان ذلك صوت عبد الحليم حافظ. ولم تمض فترة طويلة حتى تحققت نبوءة الطوخي وأصبح العندليب ليس صوت الحب في الغناء العربي فحسب بل صوت الثورة التي ألقت بالطوخي والخميسي خلف القضبان.
أستعيد ذلك ونحن نقترب من العيد التسعين لميلاد عبد الحليم علي شبانه في عائلة فلاحية من قرية الحَلَوات بمحافظة الشرقية. ففي الحادي والعشرين من حزيران عام 1929 أطل حليم على العالم فيما غادرته أمه بعد ولادته بأيام، لذلك ظل طيلة حياته يرفض الاحتفال بعيد ميلاده.
تلك كانت ولادته الأولى، أما ولادته الثانية فحدثت مع إعلان ثورة يوليو بقيادة جمال عبد الناصر. ومع أن عبد الحليم حافظ بدأ احتراف الغناء قبل الثورة إلا أن نجاحه لم يبدأ إلا مع إعلان ميلاد الجمهورية سنة 1953، عندما غنى في حفلة أمام مجلس قيادة الثورة. وقتها وجد نفسه في الثورة ووجدت الثورة نفسها فيه.
حمل مبادئها وتمثلها وطاف بها فكان سفيرها بجوارحه وصوته. وسرعان ما غدا أيقونة واحتل قلوب الملايين بإخلاصه لفنه ولمبادئ عبد الناصر القومية، الزعيم الذي تحول إلى ظاهرة مدوية. فهل كان عبد الحليم حافظ صوت الحب أم صوت الثورة؟ صوت السلطة أم صوت الشعب؟ لقد تداخل الأمر للحد الذي يصعب معه فك هذا الالتباس، فهو محبوب من قبل الشعب ومحبوب من قبل السلطة مع أن أغنياته الوطنية، في الأغلب، تمجد دور الزعيم الواحد. فأغنية “صورة” تقول: “ناصر واحنا كلنا حواليه، وعيون الدنيا عليه، والنصر بيسعى إليه”، لكن المستمع لا يلتفت إلى هذا المحتوى بل تغمره أمواج من رهافة اللحن ورقة الصوت فيردد كلماتها بدون تدقيق.
بصوته العذب وحساسيته المرهفة وإخلاصه لفنه تمكن عبد الحليم حافظ من تحويل الأغنية الوطنية إلى أغنية عاطفية يتماهى فيها الحب والشعب والسلطة.
لقد تحقق ذلك ليس بجهده فقط إنما بطاقة كمال الطويل اللحنية الباهرة، ونصوص صلاح جاهين البسيطة القريبة من الكلام العادي، فهو شاعر لا يتردد في استخدام عبارات مثل: “التصنيع الثقيل، التنظيم الشعبي”… أحسب أن عبد الحليم حافظ كان صوت الثورة وصوت الشعب معا.