عراقي في منفى عربي

1٬006

جمعة اللامي/

“خبز وطنك، أفضل من بسكويت الأرجنتين”

(فولتير)

– أنت سقراط؟

أومأ برأسه، كأنه يقول لا أو نعم، أو ربما أراد أن يقول شيئاً آخر، فهذا الطفل الذي جاء مع اخته الصغيرة، وأمه وأبيه، من بغداد إلى القاهرة، ليقيم في شقة صغيرة، في عمارة لم يقطنها إلا فلبينيون، يعرف أشياء كثيرة. يعرف أن اسمه سقراط، ويعرف أن القاهرة هي مصر، ويعرف أن المصريين يسمون مصر “أم الدنيا” لكنه يعرف أيضاً ويعرف تماماً، برغم أنه غادر العراق في وقت مبكر من طفولته، أنه عراقي.
قالت ميرة: “هاك”.

وحبست في راحة كف يدي اليسرى تميمة صغيرة، لم أتبينها جيداً. فقالت ميرة متسائلة: “عمو، شُفته”.

– نعم.

– “منو؟” قالت ميرة بشقاوة.
باغتني سؤال الطفلة الصغيرة التي هدأت الآن بعد نوبة بكاء خفيف، والدنيا كانت تمطر برفق خارج شقة والدها، فقالت أمها: “كانت تبكي تريد أن تخرج في المطر”.

-في مثل هذه الساعة؟

كان الوقت يقترب من الفجر، أو أننا نغذّ السير إلى هناك، ويبدو أن والدة ميرة، أقصد أم سقراط، كانت هي الأخرى مثلنا جميعاً، ومثل طفلتها وطفلها، تغذّ السير إلى هناك. قالت: “التميمة”.

كانت كف يدي اليسرى دافئة، برغم البرد القارس في الخارج، برغم جو غرفة الاستقبال الصغيرة التي امتلأت دفئاً وحرارة بعدد من المجلدات.
قال خضيّر ميري: “هنا بروست”.

استأذن سقراط، وخرج. بقيت ميرة تنظر إليّ، والى والدتها وهي في حضنها، بينما كنت أطوف ببصري على الحائط الذي أمامي، هناك كان علم عراقي.

ضحكت ميرة كأنها كانت تقودني الى الحائط. وضحك العراق كله،

العراق كله من نينوى الى بصرياثا، مروراً بميسان، وبابل، وبغداد، وسُرّ من رأى، وأربيل وتكريت..
العراق.

وشرقت ميرة ضاحكة، كأنها عرفت أنني زرت كل مدن وطن والدها ووالدتها في تلك الإغفاءة التي هجمت عليّ. كان كريم النجار منغمراً في فرح خاص، وربما استثنائي، بعدما خرج في تلك الليلة الماطرة، وعاد بعد عشرين دقيقة، مُحمّلاً بوجبة غداء في أول صباح الثلاثاء.
قالت أُمها: “كنت أخاف على خضيّر، بعد أيام على سقوط النظام. وكنت أخاف عليه قبل سقوط النظام. كنت أجمع بقايا ورق جريدة وأبيعه، لنأكل”.

قالت ميرة: “عمو.. إشْبيك”.

رأيت الى خضير ميري، الكاتب المعذب بذكراته، الواقف في غمرة قلقه، ينظر بعيني عقله الى داخل قلبه، فأردت أن أقول شيئاً ما. لكن ميرة هتفت فيّ: “عمو، ايدك تحترق”.

وكانت تميمة صغيرة، هي صورة العراق في راحة كفي اليسرى.