عطرُ ذلك الزمن
سعاد الجزائري /
كنت أنتظر ظلَّه الطويل خلف زجاج الباب، يحمل لي رسائل المنافي وصور أحبة تغيرت وجوههم التي اختفت عنها نضارة الشباب حينما ضاعوا بين دروب أوجاعهم..
أصغي السمع إلى رنين جرسه وهو يحمل رسائل كتبها وجع الاغتراب ووحشة الطرق البعيدة، أو كتبت خبر قصة حب لم يكتمل، أو زواج، أو رحيل، أو ضياع تلاه ضياع.
عالمي كان بين يديه وفي حقيبته، دام انتظاري إياه سنوات وسنوات في منفاي القسري، لأن فرحي وتعاستي رهن الرسائل التي يحملها، وانتظاري ينتهي بعد رحيله ليبدأ من جديد انتظار رسائل اليوم الذي يليه..
تذكرت اليوم ساعي البريد، لأني تسلمت من صديقتي رسالة بريدية لم أتوقعها، ضمَّت صوراً لأصدقاء وأحبة بعضهم غادرنا وبعضهم الآخر ينتظر دور الرحيل..
عندما أمسكت الصور بيدي سكنني وجع غياب ألبوم الصور ومتعة التجوال بين صفحاته، هذا الألبوم الذي حفظناه سابقاً في درج أمين لخصوصيته، بينما اليوم يستطيع أي كان أن يخترق هاتفنا ويستبيح خصوصيتنا أو يتلاعب بصورنا..
المفارقة أني تسلمت في اليوم نفسه صورة كارت تهنئة بعيد رأس السنة أرسلته عام ١٩٧٩ وهي السنة التي عرفت فيها أني لا أستطيع العودة إلى العراق، هي السنة التي فتحت بها بوابة الغربة، كتبت في هذا الكارت لصديقي عبارة:
(اكتب لي…اكتب بكثرة لأن الرسائل كالمطر تبلل جفاف روحي)…
صورة هذا الكارت أكدت لي أن الرسائل الورقية، التي حفظنا كثيراً منها في علب صارت صدئة، وتمزقت زوايا أوراقها، بل اختفت بعض سطورها لرداءة نوع الحبر المستخدم في كتابتها، وربما كتبت بقلم باركر أو شيفرز..
لم أعد أنتظر ظل ساعي البريد، ولا رنين جرسه، لأن ما يحمله لي ليست إلا رسائل المواعيد الطبية أو رسائل رسمية، ولذلك استغربت رسالة صديقتي التي كتبت عنواني بخط اليد، وربما في قادم الأيام ستختفي مهنة ساعي البريد.
كم من صور ورسائل ستغيب وتختفي دون أثر يذكر لها ودون أن نحفظها في أدراج أمينة، فالهواتف قصرت المسافات، لكنها غيبت كثيراً من مؤشرات الحميمية، كالصور والرسائل الورقية التي يصفر لونها من أثر السنين، مثلما غاب السواد عن شعرنا وأصفر لوننا…
تعيش الذكريات معنا ونحييها بإعادة لمسها وقراءتها. عاد إليّ اليوم وزارني كل مَنْ رأيتهم في الصور، وشعرت بوحشة غريبة عندما رأيت سطوري الموجوعة في كارت التهنئة…
لهذا أقول افتحوا ألبوماتكم، واقرأوا رسائلكم القديمة، لأن عطر ذلك الزمن سينتشر مع صوره وبين أوراق الرسائل القديمة…