علي وعمر
حسن العاني /
أغلب الظن أنها أوائل العقد السبعيني من القرن الماضي، وأنا طالب في الصف الرابع (إعدادية الكرخ)، وهذا يعني أنه وقت مبكر من مراهقتي الفكرية التي تكون في العادة عامرة بعشرات الأسئلة الفلسفية والدينية والجنسية والكونية والسياسية، بغض النظر عن كون أغلبها ساذج ومدعاة للضحك، ولهذا ظلّت الإجابات عليها معلقة في ذمّة الزمن الى أن بلغت مرحلة الرجولة واتسعت دائرة معرفتي، ومع ذلك بقيت بعض الأسئلة غامضة على الإجابة، وأحمد الله أنني تحررت من هوَس الأسئلة والإجابات بعد (2003) لانشغالي بألف هوَس يشيب لها رأس الرضيع!!
لعلّ أحد تلك الأسئلة القديمة التي استوقفني غموضها هو لماذا كان جنود الإمام علي يكسبون معاركهم مع الخصم دائماً، ولماذا كان جنود عمر يتغلبون على عدوهم دائماً، وكانت الإجابة التي لم أتوصل الى غيرها والتي تتوافق مع عقلية مثل عقليتي في بداية تكونها الفكري، وينقصها الكثير من النضج، وتفتقر الى الثقافة والوعي، أن سبب الانتصار يكمن في قوة علي البدنية، وفي شجاعته التي لا تهاب المنيّة ودفاعاً عن الحق، إنه الفارس وذو الفقار الذي لا تصمد أمام ضربته بطولة الأبطال، والفتى الذي صرع نجوم المعارك وفرسان الكفر، حتى أصبح عند الأصدقاء والأعداء، مضرب المثل حيثما ورد ذكر القوة والشجاعة والفروسية.. ويكمن في غضبة عمر وشدة بطشه وفي عزمه وبأسه وقوته ودرَّته التي أفزعت الباطل وانتصرت للحق حتى أمست مضرب المثل..
هكذا توطنت روحي عند هذه القناعة التي لا يرقى إليها شك ولا وسواس، غير أن هذه القناعة على رسوخها، سرعان ما تهاوت كما يتهاوى بناء عملاق أساسه من الرمل، وذلك بعد ان تنوعت قراءاتي واتسعت، وأصبحتُ أمتلك من الوعي والنضج وسنوات العمر ما يؤهلني لإعادة اسئلتي القديمة بصياغات جديدة: كيف لعلي أو عمر أن يحققا تلك الانتصارات المذهلة، ويبلغا مبلغ الإعجاز وجيشيهما أقل عدداً وطعامها وملبسهما ومرتبهما أدنى درجه؟!
ثم أن المسألة أكبر من قوة الرجلين الفردية والبدنية، وأكبر من أن يكون بين جنودهما أبطال صناديد وشجعان لا يهابون الموت، فالخصم أو العدو يمتلك بالمقابل موجبات النصر كلها، ولديه الأبطال والشجعان ومعه كثرة العدد والعدّة واللقمة الدسمة المجزية، ومع ذلك يخسر!!
لاشك أن في الأمر سراً بل هو سر غريب ولعلي كنت محظوظاً حين اهتديت إليه، وأرحت رأسي من تدافُع الأسئلة وزحامها، ومن حيرتي في فهم هذا اللغز وتفسيره، وأنا أتمعن في سيرة هذين الرمزين الرائعين الخالدين من رموز العرب والمسلمين، فهذا ابن أبي طالب لا يأكل اللحمة والهبرة، ويترك لجنوده العظمة وفتات الطعام، بل يأكل مما ياكلون وقصعتهم هي قصعته، وربما يجوع من أجل أن يشبعوا، ولم يكن له في المعارك سرادق وخدم وحشم وحمايات في المواقع الخلفية من سوح القتال، بل كان يتقدم سيوفهم، وجسده الى وقع السهام والرماح والسيوف أقرب من أجسادهم، يتخذ من الأرض فراشاً ومن السماء لحافاً، لا يميز بين مقاتل ومقاتل، لأنه من آل بيته أو جار أو صديق أو قريب أو صلة رحم، وما كان ابن الخطاب يلبس الحرير وجنده يلبسون الصوف، كان مثلهم يرتدي ما يرتدون ولا يستأثر لنفسه بأثواب تفوق حصتها حصتهم، وما كان يمتطي فرساً وجيشه يقطع الطريق سيراً على الأقدام.. وكان الجنود يرون بأم أعينهم موقف قائدهم علي، سلام الله عليك يابن أبي طالب، وموقف قائدهم عمر رضي الله عنك يابن الخطاب، فكيف لا يندفعون الى القتال بروح من يقاتل من أجل قضية هي قضيته وليس من أجل فرد وإن كان بمنزلة علي وعمر.
أية حيرة تربك اليوم شيخوختي ونحن نمتلك من العدّة والعدد والمال والكسوة وموفور الطعام ما نفوق به عدونا اللئيم، ومع ذلك تعبر الكلاب حدودنا، ويملأ العملاء شوارعنا بلا وجل، لا نكاد نسحق القاعدة حتى تبزغ هجمة الدواعش، ولا نكاد نبطش بالدواعش حتى تعلن الخلايا النائمة عن جرائمها هنا وهناك..
و.. واخشى من هوس الأسئلة لو داهمتني من جديد وأولها: لماذا يجري ماجرى، ولماذا جرى ما يجري؟!.