عيون زينب !

161

جمعة اللامي /

بعد الضحى بقليل، عندما كان ذلك الجمع من البشر يطوّف بين “الطبيعة الصامتة” في الشارقة، تراءى لي أني رأيتها: أول من اقتحمني عيناها. وكأنَّ غوته كان يخاطبها: “وَيْلي من عينيك: فيهما السِّحْر والقسوة، فيهما الحنان والثورة، فيهما المرح والكآبة، فيهما سرّ الحياة، وسرّ الموت.”
إهداء : إلى صديقي حسب الشيخ جعفر، مقيماً وراحلاً.
“كانت عيناك تتكلمان همساً”
(أوفيد)
وكانت تقبل نحوي، ووجهها يقول لي: “دائماً تتفوَّق الروح على كل سلاح.”
وفي مقار الأحزاب كانت الأسلحة فاسدة وباردة وعلى استعداد للهزيمة.
قلت: “هذا هو أوفيد، أيضاً.”
واتجهنا معاً، أنا وأوفيد، نحوها.

وشيئاً فشيئاً، ذابت زينب في الجدار الورقي، تماماً كما حدث مع تلك “السيدة السومرية” التي رآها حسب الشيخ جعفر في حانة بموسكو.
دنوت من الجدار، وأمسكت بأصابع كفها اليمنى.
أووه، حدث هذا في شارع المعارف، ونحن نطل على “عقد التوراة ” من شرفة أرضية في مدينة العمارة ، قلت: تعالي إلى هناك، إلى الشارقة”. قالت عيناها: “لا”. وقال قلبها “نعم”.. وكنا معاً، قبل عشر سنين، نطوَّف بين رفوف الكتب، حين التقينا ذلك الشاب الذي رحل فجأة.
قالت له: “لم أكنْ أنا، ولم تكن أنت.”
نظر الشاب الحييّ إلى الأرض.
ونظرتُ أنا إلى الأرض: كنت في الشارقة، بين جمهور البينالي الثامن، وليس معي إلا زميل عتيق، رسام يعرف الناس ببصمات وجوههم.
قلت: “انظر.. تلك المومياء؟” وكانت سيدة عجوز تصوّرنا.
قال: “انظر بقلبك، إنها تتزيّن.” وكانت المومياء تتزيّن.
وكانت زينب في صباحها الاعتيادي، أو عند ظهيرتها النادرة، حين دكت الطائرات بغداد، وبعد ساعات أعلنت الحداد في “صالة التحرير”، بينما زينب في لوحتها الأخيرة الدامية.
رأيت زينب في “جمعية التشكيليين”، وثمة “جودت حسيب”، و”مؤيد الراوي”، و”يحيى الشيخ”، وذلك الفتى الغجري حين اقتحمنا، معاً، منزل “إسماعيل فتاح” في حينه:
ـــ “نريد سيكاير”.
كانت زوجة إسماعيل فتاح، زوجته الألمانية تدخن سيكاير “تركي”. قلت:
ـــ “هذه سيكاير الحمالين”.
ضحكنا في “مشرب الخيام”. وقالت الألمانية: “رأيت زينب في بابل.”
وضحكت أمس، كأني رأيت “زينب”.
واصطكت الأسنان بالأسنان، عندما سقطت بغداد بدبابتين على الجسر.
وكانت بغداد قد تُركتْ لتسقط يوم قتلوا زينب من دون أن تُطلق ضدهم طلقة شرف واحدة.
وكان يكفي الغزاة نظرة من عيون زينب.