غزلان وأرانب

566

عامر بدر حسون /

حصل هذا في المغرب في أول منفاي عام 1978.
كنت حينها في الثامنة والعشرين من عمري عندما رأيت، بأم عيني.. الديمقراطية!
عندما أخرجت جواز سفري، بمعجزة او احتيال، ذهبت إلى المنصور، حيث السفارات، بتصميم واضح: أي بلد سيمنحني الفيزا أسرع، سأغادر إليه! وكانت المغرب هي البلد الذي توجهت إليه فجر اليوم التالي لسبب واحد: زيارة المغرب كانت لاتحتاج إلى فيزا، وأعتقد أن العراقيين اختاروا منافيهم بطريقتي أو بأغرب منها، مادام الهدف هو الهرب من الموت!
بعد ضياع لذيذ، لعدة أيام، في كازابلانكا والرباط، التي استقررت فيها، خرجت في ضحى يوم حرية، من شقة السيدة عائشة الحراق، التي استأجرت فيها غرفة، والكائنة في زنقة سيدي محمد في شارع محمد الخامس (والزنقة تعني دربونة) وتوجهت الى شوارع المدينة.. وهناك سمعت صخباً عالياً، سرعان ما تبين لي أنه صادر عن أكثر من مئتي شرطي مدججين بالخوذ والواقيات الزجاجية والعصي. وخطر ببالي أنه انقلاب.. ولم لا؟ فأنا شهدت، بأم عيني، خمسة انقلابات قبل أن أكمل الثامنة عشرة من العمر، وبعدّة أقل من هذه: دبابة تقتحم الإذاعة فجراً، وبيان رقم واحد، ونشيد الله أكبر ويصبح البلد في مهب الريح أكثر فأكثر!
كانت الشرطة تقف بمواجهة مئات من الشباب، وقفوا متحدّين يريدون إكمال مسيرتهم عبر الشارع الرئيس الذي سدّته الشرطة.
لقد خرجت من بلد يعتبر القانون فيه تجمّع أكثر من ثلاثة أشخاص مؤامرة، وهو يعامل من ينطق بكلمة ضد الحاكم بنفس عقوبة من يلقي عليه قنبلة: الموت!
وها أنا أقف في هذه اللحظة أمام مشهد لم أكن أراه إلا في التلفزيون: الطلبة يهتفون ضد الحكومة وجهاً لوجه، والشرطة في مكانها تشير للطلاب أن يذهبوا في طريق آخر. وهذه هي كل الحكاية!
كان الهتاف يرتفع ولا جديد فيه سوى أن شاباً متحمساً يخرج من بين صفوف المتظاهرين بهتاف أعلى ويتوجه للشرطة مهاجماً فتعيده جماعته، وسوى أن شرطياً أراد أن يحلّ القضية على الطريقة العربية المعروفة، وهي الضرب، لكن أحداً سرعان ما كان يعيده الى الصف المنتظم. ولقد أحببت المشهد بأكمله: شرطة وطلبة، حكومة ومعارضة.. ثم انتبهت: أهذه هي الديمقراطية الغربية التي تلعنها الحكومة والمعارضة في بلدي على حد سواء؟
كنت من جيل قيل له إن الديمقراطية الغربية هي مجرد أكذوبة وإننا إذا اتبعناها في العراق فقد نتيح الفرصة لأعداء الشعب كي يتسللوا ويحرفوا المسيرة عن طريقها، ولهذا تم تبني الديمقراطية الأخرى التي لخّصها المثل العراقي القائل: «تريد أرنب أخذ أرنب، تريد غزال أخذ أرنب» ولم نحصل على الغزال، بل أصبح عندنا ذئباً واحداً وملايين من الأرانب!
وما رأيته هو أن الشباب كانوا يصرخون في التظاهرة: غزال! وترد عليهم الشرطة: أرنب! ولم يتغلغل أعداء الشعب إليهم. وفي الليل عادت الغزلان والأرانب إلى بيوتها سالمة.. غانمة.
لقد ضربني ذلك المشهد كالصاعقة. وجعلني اختار خياري الأبدي: غزلان وأرانب! فهكذا يبدو مرعى الحياة المليء بالغزلان والأرانب والحملان والفراشات والطيور، أجمل من طابور القطيع الذي تحدد سيره: من المهد الى الهاوية!