فاضل عواد وراء القضبان!

317

بيان الصفدي /

وحتى لو لم تشملك نِعَمُ النظام كمنتسب رسمي للحزب فسيواجهك شعار عجيب وحزين وقاهر أينما اتجهت، مكتوب على الجدران واللافتات وهو: “كل مواطن بعثي وإن لم ينتم!ِ”
أعود إلى طلاب الدراسات العليا، أما الأول فهو ممن ربطتني به مودة كبيرة، رجل محترم وطيب، وسوري من محافظتي، وقريته تكاد تلاصق قريتي، وهو الأخ (ف ح)، أما الآخر فهو الشاعر عبد الإله الصائغ، الذي سيصبح دكتوراً في الأدب الجاهلي فيما بعد، إضافة إلى كونه شاعراً بعثياً نشيطاً، المفاجأة الحقيقية هي اعتقال الطالب الثالث وهو المطرب فاضل عواد، على الرغم من شهرته الواسعة، وصاحب الأغنية البصمة في الغناء العراقي المعاصر (لا خبر).
كان فاضل عواد قد قرر اعتزال الغناء، فقد حدثني صديقي، واسمه فاضل أيضاً (ف ح) أنه قد صار شديد التدين، وتوقف عن الغناء، واتجه إلى إكمال دراسته في قسم اللغة العربية في جامعة بغداد.
بعد تحقيق أولي في مديرية الأمن العامة، أطلق سراح فاضل عواد بعد وساطات متعددة، ولحراجة بقائه معتقلاً لدى النظام، فلم يعتقل سوى يومين.
لكن الواقعة وقعت برأس الطالبين الآخرين، إذ وجدا نفسيهما في زنزانة مشتركة بلا نصير أو وسيط، وشاهدا وسمعا أهوالاً خلال ذلك، مع أنهما كانا مدللين قياساً بالآخرين.
كانت التهمة أسخف من أن تصدق في بلد من خارج بلدان (شرق المتوسط)، ففي البداية داخلهما الرعب من أن يكون تقرير كاذب قد زجَّ باسميهما في أمر خطير، لكنهما شعرا بقليل من الطمأنينة عندما عرفا التهمة:
حكى لي صديقي، بعد ثلاثة أشهر قضاها في المعتقل، أنهما اتهما بنشر خبر يسيء إلى الحزب والثورة، ولاسيما أنهم بعثيون، فقد تحدثا لعديدين أن اثنين من أساتذتهما قد فصلا من التدريس في جامعة بغداد لعدم ولائهما، وكان المدرسان من أعلام الأساتذة الجامعيين، لا في العراق وحده، بل في الوطن العربي كله، ولم يكونا حزبيين، لكنهما ممن لا يحنون رؤوسهم للنظام، وهما العلَّامتان الدكتور مهدي المخزومي والدكتور إبراهيم السامرائي، وقد كان فصلهما عام 1980من الجامعة حدثاً مثيراً للغضب الصامت والاستهجان الكبير، فهو إجراء شديد العسف والغباء في حق قامتين عراقيتين شامختين.
راح صديقي، ومن معه، يقسمان للمحقق أنهما لم يقوما بنشر الخبر لأي غرض، بل تحدثا به كأمر يتعلق بمسار حياتهما العلمية، وليس من قبيل التعاطف مع الدكتورين، لكن المحقق، الذي تفهم قليلاً أنهما لم يقصدا الإساءة عن سبق الإصرار، حذرهما من أن مجرد التحدث عن إجراءات كهذه ممنوع، وفيه إساءة للحزب والثورة!
أقسم المعتقلان على أنهما لن يكررا ذلك لو حصل، وأنهما يعترفان بخطئهما غير المقصود، لكن اعتقالهما استمر ثلاثة أشهر، عانيا فيه من سوء المعاملة والجوع والقلق ومعاناة ما يجري من حولهما، فصرخات المعذبين كانت لا تتوقف ليلاً ولا نهاراً من حولهما.
وقد حدثني صديقي عن زميله عبد الإله، إذ كاد أن يفقد عقله في الزنزانة، وكثيراً ما كان يضرب رأسه بالجدار، فقد عانى من الحال التي وقع فيها بعيداً عن زوجته وطفلته الصغيرة، إذ تأكدت لصديقي تلك الرهافة الكبيرة والضعف العاطفي لدى شاعر رقيق هو عبد الإله الصائغ.
من حسن الطالع أن صديقي كان عازباً، لكن تلك التجربة أحدثت شرخاً هائلاً في مسار حياته، فقد حدثني -على انفراد- أنه صدَّق لأول مرة ما يقال عن النظام، وأنه بات يخجل من صفته الحزبية بعد هذه التجربة، فازداد (ف ح) طيبة ورقة ووعياً بعدها.
وحدثني ضاحكاً كيف أن اعتزال فاضل عواد للغناء لم يفده، ولم يُنجِه من العودة مكرهاً ليغني أغاني عدة لـ “قادسية صدام”، بل ظهر فيها باللباس العسكري، فقد كان كالجميع لا يجرؤ أن يرفض الغناء للمعركة.
المعركة.. والمعارك الغبية التي رمت بالعراق الغني والعريق إلى الهاوية.