فمٌ مفتوح

420

#خليك_بالبيت

علي السومري /

ما إن أفكر بخيبتنا كمثقفين بعد مشروع بغداد عاصمة الثقافة، تذكّرت جلسة جمعتني مع بعض الأصدقاء في بيروت أثناء أمسية بأحد مطاعمها، أثناء رحلة كانت الغاية منها إطلاق مجلة (بيت) التي أصدرها مجموعة من الشعراء العراقيين آنذاك، ما أثارني في ذلك المطعم، لوحة عُلِّقت على أحد جدرانه، ضمّت عبارة عميقة للكاتب الألماني غونتر غراس باللغة الفرنسية، تقول ما معناه: إن “المواطن الصالح هو الذي يبقي فمه مفتوحاً على الدوام”!
مقولة ما إن ترجمها لي أحد الأصدقاء حتى تهت في عمقها ومدلولاتها، وبالأخص أن هذه الحادثة جرت بعد انطلاق تظاهرات كبيرة لمثقفي العراق العام ٢٠٠٩، في شارع المتنبي تطالب بحرية التعبير والتظاهر.
كنت على الدوام أؤمن بالعلامات، وشعرت حينها أن اختيارنا لهذا المطعم دون العشرات غيره، لم يكن محض صدفة أبداً، وكانت مثل صفعة تلقيتها من رجل حكيم يحثّني على مواصلة الصراخ من أجل الحرية، الحرية التي طالما كانت مبتغانا زمن الديكتاتورية المقيتة، وفي الزمن الذي أعقب سقوط الطاغية.
العبارة طالبت المواطن الصالح بممارسة نقده المستمر والمطالبة بالعدالة، فكيف إذاً بالمثقفين والمفكرين الصالحين، وهم الشريحة التي تقع على عاتقها مهمة التنوير ونقد وتشخيص مكامن الخلل فيما يجري في بلدانهم، وبالأخص في فترات الانتكاسات الكبرى التي يواجهها المجتمع.
قلت تذكرني هذه العبارة بمشروع بغداد عاصمة الثقافة العربية، هذا المشروع الذي كلّف ميزانية الدولة في العام 2014 أكثر من ستمائة مليون دولار، ذهبت أدراج الرياح، ووصفها الكثير بأنّها أكبر عملية فساد ثقافي جرت في العراق.
ملايين الدولارات صرفت على مشاريع وهمية لم تحقق أي أثر في الثقافة العراقية، ولم تتمكن من ترميم أي معلم ثقافي قديم أو حتى الشروع ببناء صروح جديدة.
كلما مررت فوق جسر (السنك) في العاصمة بغداد، يعتصرني الألم وأنا أرى ما تبقى من مشروع دار الأوبرا في بغداد، بعد أن تحوّل المكان المخصّص لهذا البناء إلى مكب نفايات مهجور، هذا المشروع الذي تم وضع حجر الأساس له قبل أكثر من خمس سنوات، في حفل موسيقي وإعلامي كبير! دار رصد القائمون عليها مبالغ طائلة، ولكنَّها تبخَّرت مثل ما تبخَّرت مئات المليارات من الدولارات المرصودة لبناء العراق.
ما يثيرني حقاً ويشعرني بالحنق، هو أن جميع الوزراء الذين تسنّموا مناصبهم كوزراء للثقافة منذ ذلك الحين، لم يكترثوا لفساد مشروع بغداد عاصمة الثقافة عموماً وبالأخص دار الأوبرا! ولم يطالبوا يوماً بفتح ملفاته التي أزكمت الأنوف!!؟
اليوم يتحدَّث الجميع عن أهمية فتح ملفات فساده ومحاسبة حيتانه، ولأنَّ المواطن الصالح عليه أن يبقي فمه مفتوحاً على الدوام، نطالب اليوم هيئة النزاهة بفتح ملفات هذا المشروع وإعادة أموال العراق المنهوبة فيه، أموالنا التي تحوَّلت إلى مشاريع وهمية لم يتبقَ منها سوى بعض أحجار وصدى شعارات فارغة مدفوعة الثمن!