قتل شاعر أطفال..!

399

بيان الصفدي /

لم تكن قد مضت علي سوى سنة تقريباً بعملي في “مجلتي والمزمار”، وقد نشرت خلالها قصائد وقصصاً عدة، وإذا بشاب يسأل عني، كان يماثلني في العمر، صافحني بهدوء وتهذيب، وعرَّفني بنفسه بشيء من الحياء، فقدمت له كرسياً في مواجهتي.
كان وجه الشاب يشع بالطيبة والأنس والمحبة، مع مسحة من خجل جميل، لكن بؤساً واضحاً قفز في وجهي من خلال هيئة ذلك الشاب: قميص بسيط غير مكوي، وبنطال عتيق مثقوب في أكثر من مكان، وحذاء غير مصبوغ شبه بالٍ!

كان أمراً غريباً بالنسبة لي، فلم يكن من العسير في بغداد، وقتها، اقتناء ما هو أكثر قيافة من مظهر صاحبي الطيب، فما السر وراء هذا الإهمال وهذه الصعلكة في المظهر؟!
ذكر لي أنه قرأ لي ما نشرته، وراح يثني على مجلة الأطفال السورية (أسامة)، وأنه تعلم الكثير من كتَّابها، ووجه لي ملاحظة بأنه لاحظ تأثري أدبياً بزكريا تامر، وراح يحدثني عن محبته لكتابات هذا المعلم السوري، وأنه سعيد بأن نقل إليه أحدهم أن شِعره للكبار والصغار قد أعجبني على ندرة المنشور منه لم تمر دقائق حتى كنت مفتوناً بتلك الطيبة التي تنضح من ذلك الشاب، بل بدا بهيئته البائسة كأنه يلبس حلَّة ملكية في نظري، فطالت جلستنا، واسترسلنا في أحاديث شتى.
حدثني أنه معلم يحب الأطفال، ومسحور بعالمهم، وأنه يعيش أجمل ساعات يومه معهم، وتدهشه خيالات الأطفال وطريقة إحساسهم وتعبيراتهم عن الأشياء، فذكر لي ان أحد التلاميذ رسم قمراً أخضر في دفتره، ولما سأله: هل لون القمر أخضر؟ أجابه الطفل: نعم.. هذا لون القمر عندنا في (العمارة). أذكر أن ملامح صاحبي قريبة إلى أن تكون قريبة من صورة المسيح كما هو في الرسوم، لكن بعينين لعلهما قريبتان من الرمادي الفاتح، يبرق منهما إباء، بل تبدو شجاعة تتلامح في نظراته العذبة، ووجه تغلب عليه صفرة شاحبة، فيها ظلال جنوبية حزينة.
أظنها الزيارة الوحيدة التي لم تتكرر. كان هذا الشاب اللغز بالنسبة إلي هو صاحب كلمات الأغنية المشهورة التي يسمعها كل العراقيين يومياً لشاعر مغمور في برنامج الأطفال في إذاعة بغداد بألحان الخالد حسين قدوري: على شفاهنا حطَّتْ..حطَّتْ/ فراشتانْ/ ومن أكفِّنا طارتْ.. طارتْ/ حمامتانْ. أماهُ يا بلادنا/ نهراك في صدورنا/ قلادتانْ.
وهو أيضاً صاحب القصيدة المميزة (الوطن الجميل) والتي اخترتها مع قصيدة ثانية له في موسوعتي (ديوان الطفل العربي) وتقول بعض كلماتها:
مرَّت حمامات على الأوراقْ/ تساءلتْ عن أدفأ الأشجارْ/ قال لها: حطِّي على العراقْ/ مرَّت سحاباتٌ على الأورادْ/ تساءلتْ عن أعذب الأنهارْ/ قال لها: الماء في بغدادْ
لكن ذلك الشاب كان شاعراً مبشِّراً جداً للكبار أيضاً، وتلفت النظر هذه الشفافية والرقة في طريقة تعبيره، فقصائده التي نشرها تبدو شديدة التكثيف، ومشحونة بالأمل والخيال والطفولة والحياة والموسيقى، كما نلاحظ في قصيدة (الأغنية):
تزدهر الأسرارْ/ عند حواف القلبِ/ -هل امتلأ الصدر بأنفاس الأغصانْ؟/ الأسرارْ/ تقضم دقات القلبْ/ -هل نادت فيروز طيور الوروارْ؟/ من بين شقوق المذياعِ/ تسيل الأسرارْ.
كذلك في قصيدة (الخُطى): هاهم/ يشوون قلوبَ الأشجارْ/ ويسوقون إلى الصخرِ/ القطراتْ/ هاهم/ يلقون قِباع البردِ/ على الزهرِ/ فتذبل أجفانُ الكلماتْ.
في بلد تكون أرواح الناس رهائن في أيدي سلطة غاشمة ومطلقة، لن يكون صعباً إزهاق حياة مواطن، حتى لو كان مبدعاً كبيراً، أو بشارة بمبدع كبير.
اختفى صاحبي تماماً، ولم أعد أسمع عنه ولا أقرأ له، ماعدا تلك المقدمة العذبة لبرنامج الأطفال، فيما بعد عرفت، مصعوقاً، أن صاحبي قد أعدم عام 1982، ولم يجرؤ حتى أخوه أن يبلغنا بذلك، مع أنه كان ممن ينشرون قصائد للأطفال أيضاً، وقسم وافر منها في مديح السلطة التي قتلت أخاه.
من أقسى الجراحات التي ظلت تعيش في قلبي صورة ذلك الشاعر الذي التقيته، وحمل كل تلك الطيبة والموهبة، فهرسته الوحشية وسحقه الطغيان!
نعم.. لقد خسر العراق كله، وشعر الأطفال فيه بخاصة، وبعبثية بليدة، الشاعرَ الشهيد غازي دوَّاي الفهد.