حسن العاني /
لأن البشرية تفتقد الى الكمال، وكل ابن آدم خطّاء، لذلك ما من أحد إلا ويحمل في ذاكرته وسيرته الذاتية، جملةً من المواقف والسلوكيات التي تؤرقه، ويتمنى لو عاد به الزمن الى الوراء لكي يتجنّبها او يصوّبها. وأعترفُ بشجاعة أنني ما ندمت في حياتي على شيء، مثلما ندمت على إيماني بالديمقراطية والدفاع عنها، وأودّ الإقرار سلفاً بأمرين، أولهما: أن التبدل الجذري والنوعي في موقفي ناتجٌ عن قناعة أكيدة –وإن كانت لا تخلو من ردة فعل- وثانيهما: أنّ الكفر بالديمقراطية لا يعني الإيمان بالديكتاورية!!
في بداية وعيي السياسي مع مطلع العقد الستيني من القرن الماضي، كانت شعارات المرحلة على غرار (حكم الشعب للشعب والديمقراطية وحريات الاعتقاد والتعبير والكتابة والانتماء واحترام الرأي الآخر.. الخ)، تعدُّ من المقدسات التي لا يرقى اليها الشك، ومن المسلّمات التي لها من قوة اليقين في عقلي أكثر مما لحقائق العلم ونتائج المختبر، وزادت هذه القناعة رسوخاً مع تنامي الأنظمة الاستبدادية وأساليب القمع وإعدام الديمقراطية، بدءاً من أول جمهورية عسكرية عام 1958، وصولاً الى اسوأ جمهوريات الاغتيال السياسي عام 1979..
لقد عززتْ جمهوريات الديكتاتورية في العراق قضية الإيمان بالديمقراطية تعزيزاً غير مسبوق، فكلما اتسعت خارطة الكبت وأعداد الزنزانات الفردية، تفتحت القناعات أكثر على أحلام الحرية والديمقراطية، إلا أن الشروط الموضوعية لقوانين الديمقراطية ظلّت مجهولة ومتخفية أمام نشوة تلك الأحلام، مثلما ظلت غائبة عن معادلة “الديكتاتورية-الحرية”.. نعم.. لم أنتبه اليها، وربما لم ينتبه اليها الآخرون ممن هم أكبر من مراهقتي العمرية والفكرية، وهذا الغياب هو أخطر مصائبها، لكونها ليست وصفة سحرية جاهزة بديلة عن نقيضها، فكما يقتضي نجاح الدكتاتورية وجود نظام مؤهل يؤمن بها، ويمتلك وسائلها، والقوة التنفيذية العمياء لتطبيقها، فإن نجاح الديمقراطية يتطلب كذلك وجود نظام مؤهل يؤمن بها، وقاعدة شعبية واعية تدرك قبل أي شيء بأن الديمقراطية هي أعلى درجات المسؤولية على مستوى الفرد والمجتمع، وليست مجرد أصابع ملوثة بالحبر تسمح لك بالاختيار، فتختار ابن القومية والدين والمذهب والعشيرة تحت شعار (جاهل منا ولا عالم من الجيران)!!
حين تهاوت الدكتاتورية في ساحة الفردوس، لم يكن أحد قد هيأ كرسياً صغيراً من كراسي الديمقراطية في المنطقة الخضراء، ومن هنا فإنّ غياب قوانينها وشروطها وخلقتها وأخلاقها وطولها وعرضها واستيعابها، هو الذي أوصل العدد الأعظم من كبار (المسؤولين الكوارث) الى واجهة القيادة.. الذين لا يعرفون عنها شيئاً بقدر ما يعرفون حجم رواتبهم ومخصصاتهم وامتيازاتهم وجوازات سفرهم، مثلما أوصل عدداً أعظم من هؤلاء الكوارث، الذين لا يحسدون على ما يتمتعون به من ضعف وجهل وعدم أهلية..
لا يغير من الأمر شيئاً، أنني مدين للديمقراطية، كوني أكتب بهذا القدر الرائع من حرية التعبير، مما زلت أرى بأنها سبب البلاء، وأنها وراء المحاصصة والطائفية وثقافة العنف والتشاتم والتسقيط والتجريح والبطالة وسبعة ملايين تحت خط الفقر، ومازلتُ أدعو الحكومة الى تحجيم أربعة أخماس الحريات، وإيلاء مركزية السلطة موقع الصدارة والقوة لسنوات قلائل على الأقل، ريثما نستوعب الحدود المقبولة من معاني الديمقراطية في البيت والمدرسة و الشارع والعمل والبرلمان ومتنزه الزوراء، وريثما تكون لنا أصواتنا الخاصة بنا ونتخلص من أصواتنا المستعارة أو المستوردة، والى أن تتوقف (بعض) أحزابنا عن الضحك علينا، والسطو على ممتلكات الدولة ودورها حتى من دون ايجار.. فياسادتي الكبار.. يا أولياء أمورنا من ذوي الحس الوطني والنوايا الصادقة، إذا كان هذا هو حال الأحزاب السياسية (الواعية) مع الديمقراطية، فكيف سيكون حال عليوي وتسواهن وجدّوع وعوّاشة وبدو الجزيرة وسكان الحدود والأهوار والقرى النائية؟!