كلام في الديمقراطية!

657

حسن العاني/

لم يشهد تاريخ العراق السياسي مفارقاتٍ غريبةً من نوعها، مثل التي جرت في العراق منذ نيسان 2003، وفي المقدمة منها “مفارقة الديمقراطية”. فالفرقاء السياسيون من العمامة الى ربطة العنق، يبحثون عن عذر لأنفسهم، فيزعمون أن الديمقراطية مازالت رضيعة ولم تُفطم “مع أنها أصبحت فتاة في الرابعة عشرة من عمرها، وعلى أبواب الزواج”، وبالتالي لا مؤاخذة عليها إذا ما تعثرت هنا أو أخطأت هناك، وخاصة في مفهوم “حرية التعبير عن الرأي”، الذي خرج عن دائرة “الحرية” الى دائرة “الانتقاص”، والاتهام بالتآمر أو الخيانة أو العمالة، ليس على أساس الوثائق والأدلة العلمية، بل من منطلق الخلفيات القومية والدينية والمذهبية، وأحياناً الشخصية. وهكذا تمّ نحر الاجتهاد والحوار وفضيلة الاختلاف في الرأي!

المضحك المبكي، أن الفرقاء الذين يتخاصمون حتى من دون قضية، ويتفقون على أن المولود الديمقراطي لم يغادر حاضنة الخدّج ويرفضون من دون استثناء تقويم الاعوجاج، ولا يقاومون المنكر حتى في قلوبهم، مع أنه أضعف الإيمان، وهذه أحدث أنواع الكوميديا التي تثير البلل في الملابس، فأن يعرف المرء موطن الخلل ولا يعالجه، ولا يتخطاه، ويصر على التمسك به، وكأنه خطيئة إبليس، فذلك هو العجب المقرف ومدعاة السخرية..

جميعنا يدرك أن الديمقراطية وافد غريب على حياتنا وتحتاج الى زمن حتى تتكيف مع أجوائنا الحارة، كونها قادمة من أجواء باردة، ولكن المشكلة لا تكمن هنا، وإنما في هوية النخب السياسية بصورة عامة، فهي غير مؤهلة ديمقراطياً، ودماء ستالين وصدام والقذافي والأسد وجبابرة الدكتاتورية مازالت تسري في عروقها، ولو بنسبٍ متفاوتة.. كما أن الديمقراطية ليست مقالة في جريدة، أو نظرية في كتاب، أو كلاماً منمقاً يسبق الانتخابات، بل هي إيمان مقرون بالسلوك وتربية مقرونة بالثقافة، وهي في الوقت نفسه أعلى درجات الوعي والمسؤولية والتضحية. وأول شروط الإيمان أو القناعة، هو التحرر من نزعة الانتماء الضيق، والانحياز الى أهواء الخلفيات الدينية والاثنية، والا كيف نقيم نظاماً ديمقراطياً في ظل تهميش الآخر، أو في ظل سرقة الوطن أو انتعاش النرجسية الحزبية، مالم يكن هذا النظام طائفياً أو شوفينياً أو يعاني من الكساح الفكري؟!

من حق متاعبنا أن تتساءل: هل النخب السياسية، التي تحتل موقع تمثيل السنّة والشيعة والعرب والكورد، مارستْ مهنة الانتماء الى “الكل”، أم حرفة الالتصاق “بالجزء” والتعبير عن مصالحه؟! من المكابرة العقيمةِ، إنكار ما جرى طوال 14 سنة، فقد الانتماء الى الجزء على حساب الكل، هو أخطر ما واجهته العملية السياسية وأسوأ انتكاسة لجوهر الديمقراطية، لأنه أدى عملياً الى انتعاش “المكسب” للمكون، حتى أصبح جزءاً من نظرية الدولة، وكأننا ممثلو بلدان مجاورة مائياً، وكل بلد يسعى الى الحصول على حصة مائية أكبر، بغض النظر عن الوسيلة، من دون نظرة واقعية الى الشركاء الآخرين ومصالحهم، ولابد لوضعٍ بهذا القدر من النفعية، أن يؤدي الى فقدان الثقة التي يمكن أن تسود بين الممثلين، وتلك هي العلة التي أنهكت الديمقراطية وأصابتها باللوكيميا، وجعلت الناس تكفر بها، خاصة وأن غياب الثقة لم يحدث بين “الحكومة والمعارضة” فقط، كما يتبادر الى الذهن، بل قبل ذلك بين أطراف الحكومة نفسها. وهكذا باتت حياتنا قائمة على مبدأ التشكيك أو “اللاثقة”، حتى لأستطيع القول جازماً، لو أنّ نخبة سياسية دخل “الرحمان” قلبها وناشدت النخب الأخرى “ياجماعة الخير.. دعونا نلتفت الى الكفاءات المستقلة و..” لقاطعوها قبل الانتهاء من مناشدتها، وردوا عليها “وأين نذهب بكفاءاتنا التي قاومت الدكتاتورية وقدمت الشهداء و..)، ولو نزعت نخبة أخرى الشيطان من قلبها وقالت “ياجماعة الخير.. دعونا نوزع معونة الشتاء على المحتاجين و..” لقاطعتها النخب الأخرى متسائلة (ماهي حصة جماعتنا من المعونة؟!)، ولا أود أن أكون متشائماً، ولكنني مع الأسف شبه متيقن أن الثقة لن تعود الى القلوب، طالما بقي النزاع محتدماً حول الوزارات “الغنيّة” وطالما الأطراف جميعها تقبل بالوزارات الخدمية وعينها على الوزارات السياسية و.. وطالما نمارس الديمقراطية بعقلية شرطي الأمن!!