كلمة أولى
رئيس التحرير/
يوم قطع أبي صلاتهُ
في 14 تموز 1958 كان عمري سبعُ سنوات، أتذكر الآن نتفاً من صباح ذلك اليوم المشهود… كان أبي يصلي صلاة الفجر عندما بدأ الراديو يتحدث لغةً أخرى، غير معتادة.. انقطعَ البثْ ثم عادَ، فقطعَ أبي صلاتهُ وراح ينِصتُ باهتمام بالغ ( فأي حدث ذلك الذي كان أوجب من الصلاة ؟) ثم راحَ ينادي على أخوتي ويبلغهم واحداً واحداً: ثورة.. ثورة على نوري السعيد…! وبعد ساعات امتلأت باحة بيتنا بالناس، جيران وأقارب ومعارف، جاءوا ليسمعوا أخبار “الثورة” من راديو أبي، الشبيه بصندوق العجائب بحجمه الكبير وخشبه الأحمر اللماع. وكلما توقفت المارشات العسكرية وبدأ المذيع يتلو البيانات، كان الجمع يصمت وكأن الطير حط على رأسه. وعندما اقتربت الظهيرة أمر أبي والدتي المسكينة، بأعداد أكبر وجبة غداء لهذا الجمع الغفير من الضيوف الطارئين، احتفاء بالثورة المباركة!
بعد ذلك التاريخ، بسنتين أو ثلاث سنوات، اعتُقل أخي الكبير عبد الواحد.. اعتقلته الثورة نفسها، التي قطع أبي صلاتهُ من أجلها.. وكان ذنب أخي أنه من المطالبين بالسلم في كردستان. ومن يومها التبس عليَّ فرحُ أبي بالثورة، ثم التبسَ عليَّ، فيما بعد، أمر الثورات ومساراتها المأساوية.
وفي الأول من أيار 1960 وكان عمري تسعُ سنوات.. خرجتُ مع أبناء الصرائف، الواقعة خلف السدة، إلى شوارع بغداد، التي كانت تعجُ بمئات الآلاف من البشر احتفالا بعيد العمال، وفي “حديقة الأمة” شربتُ، لأول مرة، السفن آب، لأنه كان يوزعُ مجاناً على الناس… ومنذ ذلك التاريخ.. أي بعد نحوٍ من خمسين سنة ونيّف، لا تزال لسعة السفن آب تحت لساني، مثلما لا تزال لسعة اعتقال أخي عبد الواحد، تحت ضلوعي، تلك الضلوع التي كسرتها، فيما بعد، الثورات والانقلابات المشؤومة، التي تلت ذلك الصباح الـ …”مبارك!” وأوصلت العراق الى ماهو عليه من محن وكوارث لا أحد يعرف كيف ومتى ستنتهي.