لغة المستشرقين!!
حسن العاني/
صحيح هي أميركية الجواز والنشأة والجرأة، ولكنها تنحدر من أصول لبنانية، أعني أنها صبية من (الصبايا) التي تحتفظ جيناتها الوراثية بجمال مطرز بالرقة والأنوثة، ولولا مخافة اليمين لأقسمت إنّها أحلى حواء في تأريخ النسوان… كان اسمها “ريجينا” أو “ريري” كما كنت أناديها بعد طلب موافقتها، شابة لها من العمر 27 سنة، حاصلة على شهادة الماجستير في الإعلام، وجاءت إلى العراق عام 2009 للحصول على الدكتوراه عبر أطروحة تقوم على إجراء مقارنة بين الصحافة العراقية الصادرة قبل الاحتلال وبعده!!
ربما لكوني (ختياراً) أو (عجوزاً) أو (مؤتمناً) فقد اختارتني وزارة الثقافة، مرافقاً ودليلاً علمياً وجغرافياً للآنسة ريري، طوال المدة التي تستغرقها مهمة البحث، حيث أتولى إرشادها الى كلية الإعلام ومقار المكتبات والصحف، وتذليل أية مصاعب أمامها، زيادة على توفير الحماية لها، وبقدر ماكنت أعد نفسي محظوظاً لمرافقة هذا الكائن الذي لايشبه مخلوقاتنا الزوجية، وبقدر ماكنت أحسد حظي على الاختيار العظيم، فقد كنت أردد في سري على الدوام: هذه الآية من آيات الحسن والفتنة تحتاج إلى فرقة مغاوير عسكرية لحمايتها من جنون الشباب وعيون النساء ومراهقة الشيوخ، فكيف لم تنتبه الوزارة إلى ذلك؟
ما أسعدني، زيادة على سعادتي التي لا توصف بمرافقتها ومجالستها وتبادل الكلام معها، أنها إنسانة تتحلى بالظرافة والميل إلى المزاح وسرعة البديهة، وأهم من ذلك بالنسبة لي، أنها تتحدث العربية الفصحى على طريقة المستشرقين، ولا تجيد الحديث بغيرها، وأعترف من غير شعور بالندم، أنني على مدى وجودي معها مرافقاً مهذباً وأميناً، قد (قصّرْت) تجاه أسرتي، فعلاوة على كوني بصحبتها من الثامنة صباحاً إلى العاشرة ليلاً كل يوم ـ ناسياً طلبات البيت واحتياجاته، أصبحت أتمنى البقاء خارج المنزل، ولا أطيق رؤية زوجتي، وأعترف كذلك بماهو مخجل ومن دون شعور بالندم، أنني انشغلت انشغالاً مفرطاً، ولأول مرة في حياتي، بالوقوف أمام المرآة أكثر من وقوف العوانس، وبسطت يدي كل البسط على أنواع العطور والملابس الشبابية والأحذية المستوردة!!
في مثل تلك التبدلات الطبيعية، انتفض الكرم العراقي في ذاكرتي، ورأيت من الخيانة لتاريخ وادي الرافدين الحاتمي، أن أغض الطرف أو أتجاهل دعوتها إلى مائدة عشاء عراقية على شرفها وعلى حسابي. ومع قليل من التردد جازفت، ببطولة ليست من شيمي، وقلت لها إن من دواعي سعادتي لو تكرمت بقبول دعوتي على العشاء، إن لم يكن استجابة لي، فاستجابة لتقاليد البلد (كذبة حلوة، حيث لايوجد مثل هذا التقليد في العراق)، وفاجأتني بما لم أتوقعه، فبعد أن شكرتني بمنتهى اللطف، قالت لي (كنت أتشوق إلى مثل هذه الدعوة، ومع ذلك لم يفت الوقت!).
على وفق هذه الأجواء الرومانسية، ارتديت أحدث بدلة، وسفحت قنينة عطر باريسي فوق جسدي، واصطحبتها إلى أرقى مطعم في بغداد، لايرتاده إلا الارستقراطيون وأثرياء الحواسم وبعض سكان المنطقة الخضراء المغامرين، ثم أمرت لها بوجبة طعام تناسب الضيافة العراقية، مع شيء من المبالغة، حتى أنها سألتني مندهشة (هل دعوت أحداً غيري على المائدة) فأجبتها بكياسة (سيدتي… أعتذر جداً… فالمائدة دون مقامك، ودون كرم العراقيين)، فتحت عينيها على سعتهما وقالت (ياإلهي.. أنتم شعب مجنون… ومع ذلك سعيد من يعيش بينكم… الآن فقط أدركت لماذا تود القوات الأميركية البقاء في العراق!!)، وأشرق وجهها بابتسامة أنستني الوطن والاحتلال والطائفية!!
أشبه ما أكون برجل متحضر، رحت أتذوق المقبلات، بينما النادل منهمك بترتيب الأطباق، لم يعجبني طعم (الزلاطة)، فأخبرت النادل بالعربية الفصحى إكراماً لريري (السلطة حامضة كثيراً، ومزعجة جداً، وأريد تغييرها)، ولا أدري ما الذي حصل فجأة، فقد أحاط بي رجال مفتولو العضلات من كل جانب، وهم يحاصرونني بالأسئلة، اسمك.. عنوانك.. عملك.. لماذا تصف السلطة بأنها حامضة ومزعجة.. لماذا تريد تغييرها… من هي السلطة البديلة… لمصلحة من تعمل… ولم تنفع ايضاحاتي وتوسلاتي وشيخوختي، وقرروا اقتيادي الى جهة مجهولة للتحقيق، لولا تدخل ابنة الحلال في الوقت المناسب، حيث أوضحت لهم الإشكال اللغوي في مفردة (السلطة) التي لها معنيان، وقد لاحظت أن الجميع أهملوني وانشغلوا بسحرها، ونسوا واجبهم، وراحوا يوجهون لها أسئلة لا علاقة لها بالزلاطة ولا بالسلطة، كانوا يودون مواصلة الحديث معها، وهم يأكلونها بعيونهم، ولم يكفّوا عنها وعني إلا بعد مرور 3 ساعات متواصلة، بحيث برد الطعام وفقدنا الشهية وتركناه كما هو على المائدة، وغادرنا المطعم بعد أن أفسدوا عليّ ليلة لايجود بها الزمان إلا مرة في العمر، ومن يومها أقسمت أن لا أتحدث بلغة المستشرقين أبداً، ومنذ ذلك اليوم لم أتعرض إلى أي امتحان لأعرف قوة قسمي!!