لمناسبة البرمودا

1٬331

د. كريم شغيدل/

الأزياء واحدة من المفاصل الثقافية التي تحدد أحياناً هوية الفرد والمجتمع، لها أحياناً محمولات رمزية تشير إلى المنطقة أو المكون أو الطبقة الاجتماعية، لا سيما الأزياء التقليدية الفلكلورية المرتبطة بالبيئة وما لها من تأثير مباشر في طبيعة الزي ووظيفته وشكله، ونلاحظ ذلك من خلال الفرق بين سكان المناطق الجبلية مثلاً وسكان المناطق الريفية السهلية، أو سكان الصحارى، وفي مرحلة بناء الدولة العراقية الحديثة في العهد الملكي حاول الملك فيصل الأول تمييز الأفندية العراقيين بالسدارة التي سميت على اسمه (الفيصلية) لكنها سرعان ما انقرضت بعد هيمنة بيريات العسكر، ثم قبعات الحرس القومي وصولاً إلى يشاميغ الجيش الشعبي، والواقع إن المظهر هو ألف باء الشخصية، ويمكننا اليوم من خلال الأزياء تحديد الحقبة السياسية من خلال الصور الفوتوغرافية.

من يمعن النظر في بعض الصور القديمة سيرى أن العراقيين كانوا أكثر أناقة من وقتنا الحالي، أهي الموضة ومتغيراتها أم أن الذائقة العامة تراجعت؟ في الأربعينات والخمسينات هاجرت أعداد هائلة من الريف إلى المدينة، ومن يرى صور أولئك المهاجرين، لا سيما الشباب منهم لا يصدق سرعة التكيف مع أجواء المدينة ومظاهرها المدنية، بذلات سموكن وقمصان بياقات منشاة وأربطة عنق حريرية ومناديل ونظارات وساعات يد وأقلام باركر وشيفرز وعطور ومعاجين حلاقة وأسنان وفرش وأمشاط جيب وعطور وكولونيات ومفكرات جيب صغيرة وأكسسوارات أخرى، تجوال ليلي في شوارع بغداد ومقاهيها وحاناتها وسينماتها ومسارحها وملاهيها، وسفرات سياحية لمختلف بلدان العالم، عملوا في عربات باب الشيخ لبيع البضائع المختلفة وفي البناء والحرف المتنوعة، ثم دخلوا السوق التجارية في شارعي الرشيد والسعدون والشورجة، وانخرطوا في بعض الوظائف، والتحق قسم كبير منهم بالمدارس المسائية لتعلم القراءة والكتابة، وخرج منهم جيل استطاع أن يخلف جيلاً من خريجي الكليات والكفاءات والموهوبين في مختلف مجالات الحياة.

أما اليوم فإن الجيلين الثالث والرابع من سلالة أولئك المهاجرين الذين تمدنوا وتكيفوا مع الحياة المدنية، ارتدُّوا إلى الوراء، غادروا أناقة آبائهم أو أجدادهم وأفنديتهم وروحهم المدنية ليلبسوا زي الريف ويسهموا بتكريس القيم القبلية التي أوشكت على الانحسار في حقبة السبعينات وأعاد إنتاجها النظام البعثي المباد وقائده المقبور، بل أصبح من غير المقبول أن تحضر بعض المناسبات بزي الأفندي، يفترض أن تستعيد مجد أجداد أجدادك متخطياً الحلقة الأهم والأكثر تنويراً من أسلافك المهاجرين، ويبدو أن أولئك الريفيين وجدوا دولة مدنية أقوى من أن تريَّف، ومع انحسار الطابع المدني وتلاشيه تدريجياً تهيأت الظروف لترييف المدينة وقيم المجتمع.

في الستينات لم يدخل أحد إلى شارع الرشيد بالدشداشة إلا نادراً، فالقادمون من الريف كانوا يرتدون البذلة التقليدية (الصاية والجاكيت) بأبهى ما يكون، ومن أجود الأقمشة الإنجليزية والعباءات المصنوعة بدقة والأحذية اللماعة، لا يجرؤ أحد على الخروج بالبيجامة أو الشورت أو النعال، بل هناك صور لعراقيين في ملاعب شعبية لكرة القدم يرتدون بذلات صيفية ألوانها تميل للبياض في عز الصيف بدلالة ارتداء النظارات الشمسية، وبكامل الأناقة، فما الذي حدث اليوم لتصبح البرمودا والنعال هوية قومية لعموم شبابنا؟!