لن أتخلّى عن سراجي!

683

جمعة اللامي/

“كل الناس يحلمون:
بعضهم في الليل، وبعضهم في النهار”
(ت .ه .لورانس)
لم أنسَ «مقهى المعقدين» الذي يقع في شارع السعدون، ليس لأنه مقهى المثقفين العراقيين المتمردين فقط، بل لأنه لا يوجد من يشبهه في كل المدن العربية التي زرتها، طيلة هذه السنوات الست والثلاثين التي إبتعدت فيها عن الوطن مرغماً. لذلك أمسكت بسراجي الوحيد وقلت: أيها الشاب السبعيني، أنت ولدت في مقهى، وتعلمت في مقهى، وبيتك المقهى، وعالمك المقهى، أفبعد هذه الخبرة لا تستطيع ـ ومعك هذا السراج كما يقول أحد البلغاء ـ أن تهتدي الى المقهى المرتجى في مدن تعج بالمقاهي والخانات والحانات؟
وأيمُ الله، إن سؤالي الطويل هذا صادق وحقيقي . فبعدما حطّت الطائرة في ميناء القاهرة الجوي، قبل نحو سبع سنوات، سألت المضيفة: يا فتاتي، أنا مثل الأمير الأندلسي عبدالله، تائه في هذه المدينة، فأين أجد مقهاي؟ . عرفت فاطمة مقصدي، فقادتني الى حفرة في جدار وقالت: “هذه” .
وبعد نحو خمس دقائق غادرت هذا المقهى لأنه لم يُعد اليّ أجواء مقهى المعقدين البغدادي.
وفي الجزائر، قبل ربع قرن، حين كنت أبحث عن مقهى يجمعني بصديقي الروائي الطاهر وطار، لم ترق لي حانات فندق الاوراس، ووجدت «مقهى غيفارا» على الساحل مقفلة. ولذلك جعلنا من سيارته العجوز، مقهى لا يتردد فيه الا صوتانا، ونحن نزعق على طريقة ممسوسي دستويفسكي: “لماذا خانتنا الأنظمة التوليتارية” ؟.
وفي صنعاء ـ التي لا بدّ منها وإن طال السفر ـ، خلتُ أنني وجدت مقهاي المرتجى في زاوية مهملة بأحد قصور الأئمة، مع مجموعة من السياح الألمان الذين يعرفون معنى أن يقصد إنسان “معبد الشمس” في سبأ. لكنني عفت القصر بعد قليل هرباً من رائحة « الحِلبَة» التي يُغرم بها اليمنيون !
وفي منتصف شهر حزيران من سنة 2011 ، عدت الى الوطن، بعد قطيعة قسرية استمرت على إمتداد ثلاث وثلاثين سنة متواصلة، فتوجهت على الفور الى موقع مقهى المعقدين التاريخي، ولكنني لم اعثر عليه . كما لم أعثر على شارع أبي نؤاس، مثلما لم أعثر على بيتنا المؤجر بقطاع 33 بمدينة الصدر. وهكذا قررت ـ اذا ما سمح لي الأطباء وحالفني الحظ وزرت الوطن للمرة الثانية ـ ان أحمل معي سراجي الأثير، حتى في بغداد !!.