مؤامرة ظريفة !

152

حسن العاني /

(2/1/1965)، هو تاريخ تعييني معلماً في مدرسة قروية نائية… كل شيء هنا لاعلاقة له بالنظريات التي درسناها في مرحلة الإعداد لهذه المهنة، ليس ابتداءً بتلامذتها الذين يحضرون إلى الدوام بـ (الدشاديش)، ويشربون الماء من الساقية المجاورة لبناية المدرسة، وليس انتهاءً بالبناية نفسها، ذات الجدران الطينية والسقوف المعمولة من جذوع النخيل. ومع ذلك كنا سعداء للغاية، وعوامل سعادتنا لا تحصى ولا تعد، فأهل القرية، بدون استثناء، كانوا ينظرون إلينا نظرة تقديس، ويتعاملون معنا بتقدير واحترام كبيرين، ورواتبنا يومها (32 ديناراً)، وهو مبلغ يكفي لشراء ذمة السلطان.
وكنا جميعاً من أعمار شبابية متقاربة ومن سكنة بغداد، ماعدا (المدير)، فهو أقدم منا خدمة وأكبر عمراً، ومن أبناء القرية نفسها، وقد بنى داره على مبعدة أمتار من المدرسة واستقر في المنطقة..
كان فلاحو القرية – وهذه طبيعة القرى العراقية – كرماء معنا، حيث لا يكاد يمضي يوم من دون أن تصل (صوغة) باسم أحد المعلمين تحديداً، أو المدير، أو الملاك التعليمي: لبن، تمر، خبز حار، صحون بيض بالدهن، زبدة، سلال فاكهة.. الخ. وقد جرت العادة أن نتناول ما يصلنا من أطعمة وفواكه بصورة جماعية، سواء أكانت باسم واحد منا أم باسم الملاك، ولم يحصل -في حدود ذاكرتي- أن استأثر أي معلم بـ (صوغته) الخاصة أبداً، أو أخذ منها شيئاً إلى بيته، وما كان يفيض منها نوزعه على التلامذة أو نعطيه إلى الفرّاش، لكننا لاحظنا أن المدير هو الوحيد بيننا الذي يشاركنا الطعام دائماً، لكنه إذا جاء شيء باسمه لم يكن يشاركنا فيه، بل يرسله مباشرة إلى بيته!
الحقيقة أن هذا السلوك الاستغلالي أغاظنا كثيراً، ومنعنا الحرج والحياء من معاتبته، لكن الأقدار الجميلة هيأت لنا ذات يوم فرصة (الانتقام) منه، حينما غادر الرجل القرية في ذلك اليوم متوجهاً إلى مديرية التربية منذ بداية الدوام الصباحي لتسلم رواتبنا الشهرية، وكان لا يعود في العادة إلا مع نهاية الدوام أو بعده بقليل، ونحن –بالطبع- لم نكن نغادر المدرسة قبل عودته لتسلم الراتب!
في ذلك النهار المبارك قدم أحد القرويين وبيده سمكة كبيرة إلى المدير (صوغة خاصة)، فكانت فرصتنا الذهبية، إذ اجتمعنا وتحاورنا واتفقنا.. ثم أرسلنا السمكة مع الفرّاش إلى أم فيصل (زوج المدير) وهي سيدة فاضلة، وطلبنا منه إبلاغها بأن زوجها (أي المدير) يقول “هذا اليوم سيأتي المفتش ومدير التربية في زيارة تفقدية إلى المدرسة.. وأريد وجبة أكل تفتح الوجه.”
ومع نهاية الدوام كانت مائدة الطعام قد جهزت ووصلت إلى الإدارة (سمكه وثلاث دجاجات، جميعها مشوية بالتنور مع كمية كبيرة من المقبلات والخبز الحار)، وصل المدير وفوجئ بالمائدة الملكية التي بعث بها شيخ القرية، كما أخبرناه، فأكل معنا بشهية، وفيما كنا نشرب الشاي حضر صاحب (الصوغة)، واعتذر للمدير لأنه لم يستطع اصطياد سمكة أكبر، اصفر وجه المدير واحمر بعد اكتشافه لعبتنا، لكنه جارانا في الضحك حياءً، غير أنه لم يحضر إلى الدوام في اليوم الثاني بسبب تعرضه إلى ضربة شمس.. على حد زعمه!!