مؤتمرات وتكريمات!

702

حسن العاني /

أكثر من نصف قرن في عوالم الصحافة، أكسبتني معرفة واسعة بفنونها وخباياها ودهاليزها، ومن هنا أقول بثقة عالية، إنّ أسعد سعادات الإعلامي بصورة عامة، والصحافي بصورة خاصة، هي حضور المؤتمرات وتغطيتها، وآية ذلك أن العرف جرى بعد انتهاء المؤتمر أن يتسلم كل واحد منا مظروفاً مغلقاً من الدنانير التي تعادل ثلاثة أضعاف راتبه الشهري في الحد الأدنى. ويلعب الوضعُ المادي للدائرة، ومدى سخاء مسؤولها الدورَ الأهم في كمية الدنانير، ولهذا كنا نتسابق على دوائر الكهرباء مثلاً أو البلدية أو النفط أو الصناعة، ونتهرب من دوائر على غرار الشرطة أو القضاء أو الأنواء الجوية، والفرق واضح بين مظاريف “تردّ الروح” كما يقال!!
في عام 1985، على ما أذكر، حضرت مع كوكبة من الزملاء المدمنين على هذه الأماكن مؤتمراً إعلامياً للسيد وزير المشاتل (وزارة تعنى بجماليات المدن وتوزيع الأشجار وشتلات الورد على الجزر الوسطية والأرصفة والحدائق العامة)، وذلك بمناسبة الانتهاء من زرع (1885) شتلة ورد من أصناف (عين البزون والقرنفل وحلك السبع) على يمين الطريق الصاعدة الى مطار بغداد الدولي، وبعد قص الشريط والتصفيق وتناول المعجنات والعصائر بدأ المؤتمر، حيث تحدث السيد الوزير (عبد القادر الشمري) عن إنجازات وزارته بالتفصيل إلى الحدّ الذي أتعب فيه رؤوسنا بالأرقام والمصطلحات، حتى تعب هو نفسه من خطبته وقال “أنا مستعد الآن للإجابة عن أسئلتكم.” وقد امتدح معظم الزملاء إنجازات الوزارة وشخص الوزير بالذات، فيما التزمتْ قلةٌ قليلة منهم جانب الصمت، أما أنا فوسوس في الشيطان وسألته “لماذا تذبل الأوراد، وفي أغلب الأحيان تموت لسبب بسيط هو العطش، بينما تمتلك الوزارة بحدود علمي أكثر من (630) سيارة حوضية؟”، أجابني وعلامات الانزعاج على وجهه وفي صوته “يبدو أنك لا تتابع الأمور جيداً، كان هذا في السابق ولكن بفضل توجيهات الرئيس القائد حفظه الله ورعاه، انتهت هذه المشكلة تماماً!!”
حين يحضر (السيد الرئيس) على لسان أي مسؤول، فهذا يعني أن الحوار والسؤال والكلام وأي شيء قد أصبح خطاً أحمرَ، ولهذا اكتفيتُ بهز رأسي، ورسمتُ ابتسامة أعرض من فمي ثلاث مرات وشعرت أن سيادته قد ارتاح لسلوكي المتفهم. لكن الفقرة الأهم في هذا المشهد، أننا تسلمنا مظاريفنا بالطريقة المعهودة التي نعرفها، أي كل إعلامي حسب درجته الحزبية، من عضو الفرقة الى المؤيّد، انحداراً الى المستقلين والمعارضين –يقصد بهم أصحاب الأسئلة المحرجة للمسؤول-.
في صيف (2005)، أي بعد عشرين سنة على ذلك المؤتمر، ذهبتُ الى مؤتمر مماثل عقده السيد وزير التشجير والأرض الخضراء (بعد تغيير اسم المشاتل)، وذلك بمناسبة الانتهاء من زرع (1885) شتلة ورد من أصناف (عين البزون والقرنفل وحلك السبع) على (يسار) الطريق الصاعدة الى مطار بغداد الدولي، وبعد قص الشريط والتصفيق وتناول المعجنات والعصائر، بدأ المؤتمر حيث تحدث السيد الوزير (عبد الزهرة الشمري).. الخ، أما أنا فوسوس لي الشيطان وسألته “لماذا تذبل الأوراد، وفي أغلب الأحيان تموت بسبب العطش، بينما تمتلك الوزارة بحدود علمي أكثر من (630) سيارة حوضية؟”، أجابني وعلامات الانزعاج على وجهه وفي صوته (جنابك على ما يبدو صحفي غير متابع، وربما تُخفي وراء سؤالك اللئيم أجندة، ومع ذلك سأفترض فيك حُسْنَ النيّة، لكونك تجهل أن هذا كان في زمن النظام السابق، ولكن بفضل التاسع من نيسان وأجواء الديمقراطية والالتزام بالدستور، انتهت هذه المشكلة تماماً، حتى أن الأوراد تحولت من موسمية الى دائمية.”
حين يحضر التاسع من نيسان والجو الديمقراطي والدستور على لسان أي مسؤول، فهذا يعني أن الحوار أصبح خطاً أحمر، ولهذا اكتفيت بهز رأسي الى اليمين واليسار هزّاً عنيفاً، ورسمت ابتسامةً أعرض من فمي ست مرات، وأوهمتُ نفسي بأن سيادته قد ارتاح لسلوكي المتفهم. لكن المهم في هذا المشهد أننا تسلمنا مظاريفنا بالطريقة الجديدة التي باتت معهودة، أي أن مبلغ التكريم ما عاد يجري بحسب الدرجة الحزبية، وإنما على وفق نظام المحاصصة.. ولكي لا أنسى، ومن باب الأمانة التاريخية، فقد تسلمنا مظاريفنا بالدولار وليس بالدينار!!