مبالغة وتهويل

692

أحمد عبد الحسين/

في الكتابة الأدبية، لا شيء أسوأ من المبالغة. حتى الكذبُ المحض أهون من أن تكون مهوِّلاً. لأن الأدب ليس به سِمة الحِجاج، فهو إقناع بلا براهين، بل مناطُ إقناعه سويّته الفنيّة لا غير. وإذا بالغتَ في مشاعرك فيه فقد سلّمتَ سلاحك وبان عجزك عن أن تكون مقنعاً.
لماذا الكذب أهونُ من المبالغة؟ لأن الكاذبَ ـ في الحياة كما في الأدب ـ يبذل جهداً لإقناع متلقّيه بما يقولُ ويكتب، يقدّم كذبه مشغولاً بعناية كما لو أنه تحفة فنيّة، في الوقت الذي يعمد المبالِغ إلى الكذب أيضاً لكنه يرفع تهويله وغلواءه علامة على مباشرته الكذب. فليست المبالغة شيئاً سوى كذب مفضوح.

الشعراء الذين يحبّون التهويل يتوجهون إلى جمهورٍ ذي عاطفةٍ لم تهذبها المعرفةُ، جمهور يكفيه مجرد تجييش مشاعره ليحسّ أنه ارتوى، بينما الكذاب الماهر الذي يلقي كذبته ويتفنّن في الوقت ذاته في خلق إعدادات ثانوية لإقناع القارئ والمستمع بصدقه، يلزمه جهد مضاعفٌ فنّي ومعرفيّ ليصل إلى جمهورٍ لا ترويه إلا عاطفة مجدولة بمعرفة، عاطفة مفكّر بها ملياً.

يكاد يكون التهويل آفة الشعر الشعبيّ العراقيّ اليوم، بحيث يبدو كما لو أن الشعراء يتبارون بينهم في رفع وتيرة مبالغاتهم «مبالغة في المسكنة والانكسار ومبالغة في تمجيد الذات». مسابقة في التهويل أسفرتْ عن إنتاج شعر هو مجرد تمارين ذهنية سقيمة تهشّ لها نفوس متلقّين لم يعرفوا الشعر إلا هكذا: غلواء موزونة.

في شعر القدامى من الكبار كانت هذه المغالاة تمدّ رأسها مراراً، فكثير من جمهور العاطفة الخامّ غير المعجونة بمعرفة لا يحفظون للمتنبيّ إلا جُملاً من قبيل «انني خير من تسعى به قدمُ، وكلّ ما قد خلق الله وما لم يخلقِ محتقر في همتي كشعرة في مفرقي» أو جملة عمرو بن كلثوم «إذا بلغ الفطام لنا صبيّ تخر له الجبابر ساجدينا»، تصدر هذه الجمل وأشباهها من منطقة لا تمتّ للشعر الذي هو صنو التأمّل، بل هي أقرب للحميّة العشائرية في نزاع مسلّح.

تجد هذه الجمل أصداءها في الشعر الشعبيّ الذي ورث هذه الحميّة بجدارة. والجمهورُ الذي حفظ هذا الشعر واستحسنه ذلك الوقت هو ذات الجمهور الذي يحفظ الآن ويستحسن المبالغات الكاريكاتيرية التي تسمى شعراً.

الشعراء هؤلاء وجمهورهم لم تغيّر في عاطفتهم شيئاً قرونٌ تلو قرون من الفتوح المعرفية ومن الثورات الشعرية والنقدية. جمهور يريد الشعر بلهفة الظمآن لكنه يقع على هذا السراب، على هذا التهويل والمبالغة اللذين لا ينعشان فكراً ولا روحاً ولا مخيّلة.

ليس في الأمر مفارقة: المُبالِغ يخدعنا أكثر من الكاذب!