مداعبة مع الصديق جمعة الحلفي
عامر بدر حسون/
في أوائل التسعينات قرر الطبيب إجراء عملية لاستئصال ورم على حبالي الصوتية.. وأخذ خزعة من الورم لزراعته واكتشاف نوعه:
– حميد أم خبيث!
***
عندما أفقت من “البنج” قال لي الطبيب:
– ولا كلمة لمدة شهر إن كنت تريد الشفاء!
شرح لي ولزوجتي خطورة الكلام وأنني قد أفقد صوتي نهائياً!
وزاد بالقول:
– المشكلة ليست هنا.. بل انتظار أسبوعين لنعرف نوع الورم!
أردت أن أرد عليه فمنعني، وقال لي:
– أكتب ما تريد قوله!
أمسكت بالقلم وطارت مني الكلمات وفي النهاية كتبت له:
– ولكنني ثرثار يا دكتور!
***
كانت تلك الفترة مليئة بمشاعر طريفة ومحزنة، وعلى سبيل المثال فإن الأصدقاء الذين كانوا يزوروني في بيتي وأتحدث لهم كتابة، سرعان ما كانوا يتقمصون الحالة ويبدأون بالحديث بالإشارة أو بصوت خفيض!
وقد جمعت الأوراق التي كتبتها خلال شهر وفيها أسئلتي وإجاباتي على أمل أن أصنع منها شيئاً طريفاً لكنها فقدت في التنقل!
***
وابتكرت طريقة مضحكة للنداء على أفراد عائلتي من خلال الاتفاق على نوع النداء الذي أطلقه في الحالات الطارئة أو العادية.. وهكذا أتيح لي التصرف كهارون الرشيد:
– يصفق فيركض الجميع لتلبية طلباته!
***
كل تلك الألاعيب والسخافات والنكات المكتوبة كانت وسيلتي للتغطية على المسكوت عنه:
– ما هو نوع الورم.. خبيث أم حميد؟!
لقد حولت نفسي إلى “قراقوز” منزلي لمحاربة المخاوف التي تراود عائلتي الصغيرة في ذلك المنفى وأزعم أنني نجحت!
لكن…
***
لا بأس من القول إنني، وعندما كنت أخلو إلى نفسي، كنت أحاور الموت المحتمل وتأثيره على طفلتيّ وزوجتي في الغربة!
لم تكن في ذلك الحوار راحة أو كرامة وكان عليّأن أتخلص منه وأن لا أسمح لنفسي بالدخول فيه وأزعم/ مرة أخرى، أنني نجحت!
كيف؟
***
بدأت في الواقع بتبديل مكان تلك المخاوف، فبدلاً من أن أتركها تصول وتجول في أعماقي لتحطمني نقلتها إلى الورق!
وكان ما كتبته في الغالب حوارات مسرحية أفرغت فيها ذلك الحوار الخطير والمخيف مع الموت! وعندما أهدأ وأتوازن كنت أمزق تلك الأوراق السرية دون علم عائلتي!
***
ومناسبة هذا التذكر هو الصديق جمعة الحلفي ومرضه!
فقد اكتشف طبيبه قبل أيام ورماً على المريء واقترح عليه الذهاب إلى بيروت للعلاج.
وهو منذ أيام هناك بانتظار ظهور نتيجة زرع خزعة من الورم لتحديد نوعه وكيفية معالجته.
وكما عرفت بعد أسبوعين أن الورم الذي كان على حبالي الصوتية هو حميد وتم التخلص منه بالعمل الجراحي.. سيكتشف صديقي أبو زينة بعد أقل من أسبوعين أنه ورم حميد وابن أوادم و.. ليس أكثر من هذا!
وإذا كنت كتبت نصوصاً سرية فأنا واثق أن جمعة سيقاوم الضعف البشري بالشعر وهو سينشره ولن يمزقه كما فعلت أنا!
***
عزيزي أبو زينة!
سهّل المهمة على طبيبك واقتل مرضك بالشعر!
لقد واجهتَ منفى صعباً وقاسياً ووقفتَ بوجه صدام وسجونه لأنك كنت تستعين على قبحهم بالقصيدة ونجحت! فلم لا تفعل هذا مع مرض عابر؟
***
لن أقبل منك رداً على هذا إلا إن كتبته على شكل قصيدة! (وستغنيها عندما تعود سالماً)!
واعتبر رحلة العلاج هذه رحلة سياحية.. أم أن المنافي أنستك السياحة؟