مظفر لا يموت

601

أحمد عبد الحسين/

أماتوا مظفر النوّاب كثيراً في فيسبوك. لا يكاد يمرّ شهر إلا ويشاع خبر وفاة هذا الكبير شعراً ومواقف وإنسانيّة. لست أعرف اللذة التي يجنيها هؤلاء الذين يشيعون خبراً كذوباً عن موت شاعر غرق في حبّ الناس الذين بادلوه هذا الحبّ. لعلّ في «أخلاقيات» و»أعراف» فيسبوك ما يغري باختلاق أنباء صاعقة كهذه تتيح للكاذب اهتماماً آنياً قبل أن ينساها الجميع وينشغل بكذبة أخرى.

أعرف أن النوّاب ـ هو وشعره ومواقفه ـ خارج هذه الأعراف الفيسبوكية المغرقة في خفتها ولا أخلاقيتها، عاش عمره قبل اختراع هذا العالم الضوئيّ المليء بأكاذيب وأباطيل يتبع بعضها بعضاً. شعره الشعبيّ المصفّى بحساسية فائقة قلّ نظيرها جعلته رائداً لطريقة سيحاولها بعده كثيرون، ديوانه الأول فتحٌ في الشعرية العراقيّة، ولذا كان وارداً أن يقول عنه سعدي يوسف «أضع جبين شعري كلّه على أعتاب الريل وحمد».

مظفر ذو مفارقة لم ينتهجها سواه: كان في شعره الشعبيّ مغرقاً في حداثته متجاوزاً للأفق السائد وظلّ عصياً حتى الآن على أن يناله التقليديون، لكنه في شعره المكتوب بالعربية الفصحى اختار أداء تقليدياً ألجأته إليه رغبته في استيفاء ثوريته شعراً. وبهذا كان شعره الشعبيّ وحده يمثل شعره الخالص البريء من شوب الأغراض وكدر الانشغال بما هو خارجه.

أتاحتْ لي مقاديري السعيدة صحبة متواصلة مع هذا الشاعر الفذّ. حين إقامتي الطويلة بدمشق “أيام معارضتنا لنظام صدام” كان النوّاب عرّاب مثقفي العراق هناك، وبيته الموئل الذي يلتئم فيه جمعهم، وكم كان وجوده يمثل أيقونة وتميمة نرفعها في وجه الكابوس الذي كان يكتنف الوطن.
ربما يكون “أبو عادل” علامة أخيرة تذكّرنا بوطنٍ شعريّ معافى قبل أن يربض على قلبه ساسة وصيارفه ذوو قلوب

سود، وقبل أن يكون الكذبُ عرفاً يتيح للكاذب حيازة رأسمال رمزيّ وشهرة في عالم مصنوع يومض وينطفئ سريعاً.
إذا خُيّرنا بين هذا العالم الأزرق اللامتناهي في مساحته وكذبه وبين «جنح غنيدة» وحدها فسوف نختار الاغتراب والتطواف في العالم مع مظفر لنعود بعدها إلى أهلنا كهولاً و»ثيابنا تقطر محبة وطيناً».