مع أنطوني كوين

198

بيان الصفدي/

ما إن ذاع في دار ثقافة الأطفال أنني كلفت بإجراء حوار مع (أنطوني كوين) حتى جرى هرج ومرج، فكثيرون وكثيرات أحبوا أن يرافقوني إلى (فندق بغداد) لرؤيته.
كان كوين قد دعي إلى زيارة العراق عام 1979، وعلمنا أن زيارة العمل تلك جرت على أمل إنتاج فيلم عن صلاح الدين الأيوبي يقوم به كوين بدور البطولة على غرار فيلم (الرسالة) الذي كان قد أنتج من قريب، ولاقى نجاحاً كبيراً.
جاء حظّي ملائماً لتلك المهمة الاستثنائية، وفي بدايات عملي الصحفي، فقد كنت يومها أُعِدُّ الصفحة الثقافية لجريدة (المزمار).
استطاعت السيدة أمل الشرقي، المديرة العامة لدار ثقافة الأطفال وقتها، أن تقمع رغبة عديدين في مرافقتي، لكن أمينة المكتبة وقتها راحت تبكي طالبة أن ترى أنطوني كوين معنا، وكان أنْ رقَّ قلب السيدة أمل لتوسلات الآنسة “أغنار عبد الله نيازي” وقتها، فتوقفت دموعها وعلت وجهها ابتسامات فرح، كما رافقتني الزميلة رضية محمد كريم كمترجمة والمصور، وانطلقنا إلى فندق بغداد في شارع السعدون.
شخصياً كنت قد تصنعت الهدوء، بينما كانت تملؤني رهبة من هذا اللقاء بشخصية بهذا الحجم، مع شعور بالزهو أن تكون من نصيبي فرصة كهذه، فأرى الممثل العالمي الذي شاهدته مراراً على الشاشتين الصغيرة والكبيرة.
ما إن وصلنا مدخل الفندق حتى ازداد ارتباكي. كان الاتفاق أن يجري اللقاء في بهو الفندق، وعندما كنت أبحث عن أنطوني كوين بدا لي من خلف الزجاج في أقصى البهو بشعره الأشيب الأشعث، يجلس مع المخرج مصطفى العقاد وامرأة عرفنا -فيما بعد- أنها زوجة كوين، وراحت ضربات قلبي تتسارع ونحن متوجهين صوبه، وأحسست أن رجليَّ تكادان ألا تحملاني من الرهبة.
بدأت المصافحات والتعارف، فأمسك كوين بكتفيَّ الاثنتين ضاحكاً وقائلاً بصوته الهادر:
“أنا سعيد بك أيها الصحفي في مجلة أطفال وتكاد تكون طفلاً!”
وحين جلسنا راح ينظر نحو أغنار بتمعن، وأطلق ما يشبه دَمْدمةً، وقال:
“أنت جميلة، وجمالك يذكرني بجمال فتيات بلدي، فأنا من المكسيك.”
طبعاً بعدها ظلت أغنار تتباهى مازحة بأن أنطوني كوين أعجب بجمالها.
وعندما تطوع مصطفى العقاد بالترجمة فقد ظلت زميلتي رضية مستمعة وتسجل الحوار في دفترها، ولا أنسى أن بداية اللقاء بأنطوني كوين أشعرتني بالأمان والتواضع وخفَّة الدم في شخصه، فتبدَّد خوفي، ورحت أساله بجرأة حول خصوصيات طريفة تتعلق به وبأسرته، وفي ذهني دوماً أنني في حوار لمجلة أطفال في النهاية.
أذكر أنه حدثني عن طفولته البائسة، وكيف عمل في مهن عديدة، فمسح الأحذية وباع الصحف متجوِّلاً على قدميه، وأنه في النهاية درس الهندسة المعمارية، لكن موهبته التمثيلية جعلته يتألق كواحد من أهم نجوم السينما في القرن العشرين.
خلال الحوار لاحظت أن كوين يضع في كفه مجموعة من الحصى الصغيرة الملونة، ويفركها بين حين وآخر، ولما سألته عنها قال إنها حصى من سواحل المكسيك، وأن حمْلها في كفه يعطيه شعوراً جميلاً بالراحة والأمان، وكأن بلده يرافقه، فأردفت: لماذا كفاك خشنتان؟ فأجاب أن ذلك بسبب الأدوار التي يقوم بها، ففيها الكثير من الخشونة أحياناً، إضافة إلى تعوده على ركوب الدراجات، وتأثير قبضة المقود على كفيه.
وانطلقت أكثر فسألته عن أبنائه، فأخبرني أنه أب لثمانية أبناء، قلت: وهل تضربهم أحياناً؟ قال: طبعاً، فأنا لا أرحمهم إن أخطأوا.
وأذكر أنني سألته عن أقرب أصدقائه؟ فأجابني إجابة مفاجئة حين قال: الموت!
وحول سؤال إن كان يقبل تمثيل فيلم عن فلسطين، قال: أقبل طبعاً بشرط أن يكون السيناريو جيداً.
وسألته عن أمنيته التي لم يحققها حتى الآن، فأجاب:
“أنا كمهندس معماري أتمنى أن أصمِّم مدينة خاصة بالأطفال.”
خلال الحوار كنت أحس بالشاعرية في طريقة إجابات كوين، فاستفسرت منه عن سرِّ ذلك، فقال بأنه قارئ ممتاز للأدب، ولديه أصدقاء أدباء من أنحاء العالم.
كان الحوار يدور، بينما زوجته صامتة لم تحاول المشاركة بكلمة واحدة، وفي نهاية الحوار طلبت منه أن يكتب لي بخط يده عبارة نضعها على غلاف المزمار، فتردَّد قليلاً، ثم وافق، فكتب عبارة أذكر أنها تقول:
“أيها الطفل! سدَّد على هدفك جيداً، فقد تصيب.”
بعدها قال لنا مصطفى العقاد:
“أتعرفون لماذا تردد، وأنا استغربت كيف وافق وكتب العبارة، لعلكم لا تعرفون أنه قد يطلب مبلغاً كبيراً لقاء توقيعه، فما بالكم بكتابة عبارة مع توقيع؟!”